بعدما هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقلب الطاولة داخلياً عبر رفض التسليم بنتيجة الانتخابات يبدو كل شيء يسير بالاتجاه المعاكس. ففي الداخل الأميركي وفي الخارج الدولي تسليم بأن جو بايدن هو الرئيس الأميركي المقبل، وكلام مستشار الأمن القومي الأميركي المعين من ترامب روبرت أوبراين عن الانتقال السلس والفريق الانتقالي المحترف لبايدن كافٍ لمعرفة الاتجاه المقبل، وفي الخارج جرى تسويق نظرية قلب الطاولة لجهة القول بخطوات تصعيدية حربية سيُقدم عليها ترامب، ومما تداولته وسائل الإعلام الأميركية من تسريبات من فريق ترامب للحديث عن ضربة لمفاعل نطنز النووي في إيران، ثم الكلام عن نصائح أدّت لصرف ترامب النظر عن العملية.
فجأة أعلن ترامب عبر وزارة الدفاع التي غير وزيرها قرار البدء بسحب قواته تدريجياً من العراق وأفغانستان، وخطة الوزارة للانسحاب لا تكتمل قبل نهاية ولاية ترامب ما يعني أن مواصلتها تحتاج موافقة الرئيس الجديد، فما هي خيارات ترامب لقلب الطاولة، إن لم تكن الضربات العسكرية التي صرف النظر عنها تفادياً لتداعيات خطيرة، كما قيل، وإن لم تكن الانسحابات التي لن تكتمل خلال ما تبقى من ولايته؟
نشرت مجلة فورين بوليسي مقالاً تبيض فيه صفحة ترامب مضمونه أن سياسات ترامب غيّرت الشرق الأوسط. فالعقوبات أنهكت إيران وجعلت التفاوض معها أسهل، والتطبيع الإماراتي والبحريني مع كيان الاحتلال فتح طريقاً لفك العلاقة بين التعاون العربي «الإسرائيلي» والقضية الفلسطينية، لكن فورين بوليسي التي تعتبر أن ترامب قلب الطاولة وانتهى تتجاهل أن استنتاجها بتغيير الشرق الأوسط متسرّع جداً، فمن قال إن التفاوض مع إيران بات أسهل، والمعلوم أن إيران لن تفاوض من خارج إطار الاتفاق النووي، فما لم يعد الأميركي سواء كان اسمه ترامب أم بايدن إلى الاتفاق وأطره وقواعده للتفاوض، لا تفاوض مهما بلغت العقوبات ومهما بلغت التهديدات، ومهما أراد الأميركي من الانسحابات.
في الشرق الأوسط القضية ليست حل النزاع العربي «الإسرائيلي» وقد صارت المقاومة هي اللاعب الرئيسي وليس النظام العربي الرسمي الذي فشل فشلاً ذريعاً في نظريته التي صاغها انور السادات بأن 99% من أوراق اللعبة بيد أميركا، بينما اليوم المعادلة هي أن 99% من أمن «إسرائيل» بيد المقاومة، فماذا ستفيد تفاهمات التطبيع مع دول لا تمثل تهديداً لأمن الكيان، بينما التهديد الذي تمثله المقاومة يتزايد، وما يحتاجه الكيان قبل الوفود السياحية الإماراتيّة هو الاطمئنان إلى وجوده وأمنه.
الصواريخ التي تساقطت على السفارة الأميركية في بغداد تقول إن على الأميركي أن يختار بين الانسحاب تحت النار أو الذهاب لاتفاق مضمونه التسليم بالسيادة العراقية الكاملة، ومثلها في سورية، وفي الحالتين التسليم بسقوط مشروع الهيمنة، والصواريخ التي سقطت قرب تل أبيب تقول إن أمن الكيان لن يجلبه التطبيع.
ما يفعله ترامب ليس موجهاً ضد محور المقاومة بقدر ما هو موجه لبايدن بمحاولة خلق وقائع تربك مسيرته الرئاسية، وقائع متناقضة بين مناخ تصعيدي مع محور المقاومة، وانسحابات تترك الساحة فارغة أمامه، وهي في مضمونها تسليم بأن زمن ترامب ينتهي وزمن جديد يبدأ، ليس أكيداً انه زمن بايدن، فمن يملك الأرض يملك الزمن، والكلمة الفصل لم تُقَلْ بعد.