أول التساؤلات التي تثيرها قضية أبي محمد المصري تتصل بالتوقيت، لا سيما أن الكشف المثير للجدل عن اغتيال من تردد أنه الخليفة المحتمل لأيمن الظواهري، يترافق مع تسريبات أميركية بشأن احتمال قيام دونالد ترامب، خلال ما تبقى من فترة اقامته في البيت الأبيض، بتوجيه ضربة إلى إيران، وربما إلى “محور المقاومة”، وهي فرضية، وإن كانت غير مؤكدة، قد تحدث عنها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله قبل أيام.
ما يضفي مزيداً من الإثارة على الترابط المريب بين الكشف عن العملية، التي يفترض أنها تمت في السابع من آب/أغسطس الماضي، وبين التلويحات بشأن عمل عسكري أميركي ضد إيران، هو العنصر اللبناني الذي حرصت المصادر الأمنية الأميركية على الصاقه بشخصية القيادي الجهادي المستهدف، عبر الإشارة إلى أنه “استاذ تاريخ لبناني”، وفق ما ورد في صحيفة “واشنطن بوست”، مع الحديث عن صلات يمتلكها مع “حزب الله”، على حد ما ذُكر في وسائل إعلام أميركية وعربية.
ثمة لغز آخر في لعبة التسريبات تلك، وهو يتصل أيضاً بعامل التوقيت، ذلك أن “انجازا أمنيا” على هذا القدر من الأهمية ظل طي الكتمان طوال ثلاثة أشهر، أي أن التفاصيل المتصلة به ظلت مخفية خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة الرئاسية الأميركية، بالرغم من أن عملية الاغتيال بحدّ ذاتها كان يمكن أن تشكل رصيداً إضافياً في سلسلة “انجازات” دونالد ترامب، ابتداءً من اغتيال قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، وصولاً إلى اتفاقيات التطبيع الأخير التي رعتها ادارته بين إسرائيل والعواصم العربية.
امتداداً لما سبق، يبدو مثيراً للاهتمام أن تنظيم “القاعدة” نفسه، لم يعلن رسمياً عن مقتل أبي محمد المصري طوال الأشهر الثلاثة المنصرمة، في حين لم يرد أي تبنّ رسمي للعملية، سواء في الولايات المتحدة أو إسرائيل، أو حتى في إيران، التي نفت بشكل قاطع الروايات الإعلامية الأميركية.
هذه التساؤلات تقود إلى احتمال من اثنين: إما أن إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، أرادتا التريّث في الإعلان عن اغتيال ابي محمد المصري انتظاراً لاستخدام هذه الورقة لأغراض تتجاوز الوظيفة الانتخابية؛ وإما ان ثمة عملية اغتيال لـ”هدف ثمين” قد تمت بالفعل، وكان ينبغي التريّب في الكشف عن تفاصيلها بانتظار التثبّت من هويته المستهدف فيها.
الثابت حتى الآن، وبحسب الرواية الرسمية الإيرانية، أن المواطن اللبناني حبيب داود وابنته مريم، قتلا برصاص شخصين كانا يستقلان دراجة نارية، مساء الجمعة السابع من آب/أغسطس، في شارع باسداران في شمال شرق طهران، وأمام منزل أبي مهدي المهندس، نائب رئيس ميليشيات الحشد الشعبي العراقية الذي اغتيل بغارة أميركية مع قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، في وقت ذكرت منصات اعلامية إيرانية معارضة أن الرجل هو أحد عناصر “حزب الله”، الأمر الذي نفته مصادر إيرانية حينذاك.
تقول مصادر مطلعة لـ”180″ أن الشخص المستهدف وابنته كانا على متن دراجة نارية وتم اغتيالهما بمسدسات كاتمة للصوت ولاحقاً تبين أنهما يحملان جوازي سفر لبنانيين بصفة “لاجئ فلسطيني” وقد استدعى الامن الايراني السفارة اللبنانية للتأكد من الجثتين ولاحقاً تم التثبت من أن الوثيقتين بحوزتهما صادرتان عن الأمن العام اللبناني وهما مزروتان.
منذ السابع من آب/أغسطس، ضاعت الحادثة في ضجيج مسلسل التفجيرات الغامضة التي ضربت إيران، والتي حامت الشبهات في شأنها حول الاستخبارات الإسرائيلية، وبطبيعة الحال في ضجيج انفجار مرفأ بيروت الذي سبق الاغتيال بثلاثة أيام، إلى أن خرجت الرواية الأميركية الأخيرة حول هوية أبي محمد المصري.
تقول مصادر مطلعة لـ”180″ أن الشخص المستهدف وابنته كانا على متن دراجة نارية وتم اغتيالهما بمسدسات كاتمة للصوت ولاحقاً تبين أنهما يحملان جوازي سفر لبنانيين بصفة “لاجئ فلسطيني” وقد استدعى الامن الايراني السفارة اللبنانية للتأكد من الجثتين ولاحقاً تم التثبت من أن الوثيقتين بحوزتهما صادرتان عن الأمن العام اللبناني وهما مزروتان.
أبو محمد المصري، واسمه الحقيقي عبد الله أحمد عبد الله، ومن مواليد حي الربيعة (شمال مصر) عام 1963، هو ضابط سابق في الجيش المصري، وفي شبابه، وفقاً لإفادات خطية وردت في دعاوى قضائية في الولايات المتحدة، كان لاعباً محترفاً في كرة القدم في أكبر الجامعات المصرية. بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان في عام 1979، انضم إلى الحركة “الجهادية” التي احتشدت لمساعدة القوات الأفغانية.
وعقب انسحاب السوفيات بعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ، رفضت مصر السماح للمصري بالعودة، فبقي في أفغانستان، حيث انضم في النهاية إل أسامة بن لادن في الجماعة التي أصبحت في ما بعد النواة المؤسسة لتنظيم “القاعدة”، وقد أدرجته الجماعة بصفته سابع مؤسس للتنظيم الذي يضم 170 قيادياً.
ويعد أبو محمد المصري أحد أبرز الأسماء الموجودة على قوائم المطلوبين للولايات المتحدة، بسبب اتهامه بتفجير السفارتين الأميركيتين في دار السلام ونيروبي عام 1998، وقد وضعت السلطات الأميركية مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن موقع المصري.
وكان المصري قد اعتُقل في إيران منذ عام 2003، إلا أنه صدر قرار بإخلاء سبيله من قبل السلطات الإيرانية في عام 2015، حيث كشفت تقارير استخباراتية أميركية، أن طهران أبرمت صفقة سرية مع تنظيم “القاعدة”، لإطلاق سراح خمسة من قياداته، وضعتهم قيد الإقامة الجبرية، بعد غزو القوات الأميركية لمعظم الأراضي الأفغانية، في مقابل تحرير دبلوماسي إيراني كان مختطفا في اليمن، وهم، إلى جانب ابي محمد المصري، أبو الخير المصري مسؤول العلاقات الخارجية، وسيف العدل، قائد الجناح العسكري، والأردنيان خالد العاروري وساري شهاب.
بانتظار أن تتضح ألغاز اغتيال ابي محمد المصري، يبدو واضحاً أن الرجل سيكون عنوان فصل جديد من التصعيد بين الولايات المتحدة واسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى.
في إسرائيل، اعتبر محللون أمنيون أن اغتيال أبو محمد المصري قبل ثلاثة أشهر، والكشف، يوم أمس، عن أن عميلين إسرائيليين قد نفذا الاغتيال، يحمل رسائل موجهة إلى إيران، وأن الأمر يصب في مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل.
من بين رسائل هذا الاغتيال، التي أوردتها الصحافة الإسرائيلية، أن الحرب الخفية بين الولايات المتحدة وإسرائيل وبين إيران، ما زالت متواصلة، وأن “القادم أعظم”.
وبحسب محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، رونين بيرغمان، وهو أحد الصحافيين الذي أعدوا التقرير حول اغتيال أبو محمد المصري، الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، إلى عدة استنتاجات تتعالى من هذا الاغتيال:
– الاستنتاج الأول، هو أن إيران تستضيف قياديين في تنظيم “القاعدة” برغم عداء طهران لهذا التنظيم “الجهادي السني”، وذلك لسببين: الأول، هو “الرغبة في التنسيق والتعاون في هجمات ضد أعداء مشتركين، بينهم الولايات المتحدة وإسرائيل”؛ والثاني، هو “التيقن من أن التنظيم لا ينفذ هجمات ضد إيران أو مصالحها”.
وبحسب بيرغمان، فإن مشكلة إيران بالكشف عن الاغتيال ليست تجاه الخارج، بتفسير سبب استضافتهم له، وإنما تجاه الداخل “وماذا سيقولون للجمهور؟ وماذا سيقولون لجيران المصري الذين اكتشفوا فجأة أن “المؤرخ اللبناني الشيعي اللطيف” هو عمليا نائب زعيم القاعدة؟”.
– الاستنتاج الثاني، هو أن “للموساد خصوصاً والاستخبارات الإسرائيلية عموما اختراق عميق للغاية داخل أجهزة الاستخبارات، الجيش والأمن في إيران. وهو النوع نفسه من الاختراق الذي سمح للموساد، وفقا لتقارير أجنبية (إذ لا تعترف إسرائيل رسميا بذلك)، بتفجير المنشأة النووية في نطنز، قبل عدة أشهر”. ويقول بيرغمان “إمكانية العثور على المصري، وبعد ذلك اغتياله، تعبر عن القدرات الاستخباراتية العملانية غير المألوفة للموساد التي وُضعت في خدمة الولايات المتحدة”.
– الاستنتاج الثالث، هو أن العلاقات بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وتلك الأميركية “وثيقة أكثر من ذي قبل”. وبحسب بيرغمان فإنّ “المصري ليس ضمن قائمة أفضليات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، فالعثور عليه متخفياً بهوية مزيفة حدث بالصدفة، وخلال جمع معلومات استخباراتية عامة. كما أن استهدافه لم يكن رغبة إسرائيلية، برغم أن لإسرائيل حساباً مفتوحاً معه”.
– الاستنتاج الرابع، هو أن “ثمة احتمال أن عمليات الإثارة الكبرى قادمة. وبرغم أهمية اغتيال المصري، لكن هذه معركة هامشية بالنسبة للقضية المركزية، المواجهة المتواصلة، وهي بمثابة حرب نشبت منذ مدة ومستمرة طوال الوقت، بين إيران من جهة وبين الولايات المتحدة وإسرائيل من الجهة الأخرى. وهناك لم يتم قول الكلمة الأخيرة بعد. بل ما زالت بعيدة”.
أما المراسل العسكري لـ”يديعوت أحرونوت”، يوسي يهوشواع، فيرى أن السؤال المركزي بشأن توقيت النشر عن هذا الاغتيال هو: لماذا لم يستخدم الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، هذا الاغتيال خلال حملته الانتخابية.؟
ومن الجهة الأخرى، اعتبر أن الاغتيال يبعث رسالة إلى الإدارة الأميركية للرئيس المنتخب، جو بايدن، “حول مدى أهمية إسرائيل للأنشطة في الشرق الأوسط”.
وأضاف يهوشواع أن “الرسالة الأخرى هي بالطبع قدرة إسرائيل على العمل في إيران، التي ستلزم الأميركيين بأخذها في الحسبان قبل اتخاذ قرارات بشأن اتفاق نووي جديد”.
من جانبه، اعتبر المحلل العسكري في صحيفة “يسرائيل هيوم”، يوآف ليمور، أن الرسالة في النشر عن اغتيال المصري موجهة لعدة جهات، إلى القاعدة وإيران وأي جهة “راديكالية” في المنطقة، في إشارة واضحة إلى تنظيمات مثل “حماس” و”حزب الله”.