الوقت- في أعقاب الانفجار المهيب الذي طال مرفأ بيروت في تاريخ 4 اب العام الجاري والذي أدى الى استقالة “حسان دياب” رئيس وزراء الحكومة للنهوض في الشؤون اللبنانية تحت التآمر والضغط من الخارج، تم ترشيح السفير اللبناني في ألمانيا، “مصطفى أديب”، من قبل رؤساء الوزراء اللبنانيين السابقين، بمن فيهم سعد الحريري، كمرشح جديد لرئاسة وزراء هذا البلد، وتم تكليفه رسميا لتشكيل حكومة في لبنان في تاريخ 31 أغسطس.
لكن أديب اتخذ خطوات مشبوهة، مثل الإصرار على إجراء مشاورات وجلسات سرية مع الرئيس، وتداول جميع المناصب الوزارية بشكل متناوب، ومحاولة عزل حزب الله من الحكومة، التي كانت تتعرض بوضوح لضغوط من المثلث الأجنبي الأمريكي الفرنسي السعودي وبعد نحو شهر من تكليفه بتشكيل الحكومة، قام بتقديم استقالته من أجل تصعيد الاضطرابات في لبنان، وبعد ذلك أعلن سعد الحريري نفسه بعنوان المرشح الوحيد لرئاسة وزراء لبنان مع الكثير من الجدل، وتم تكليفه لتشكيل الحكومة في 22 أكتوبر من قبل الرئيس اللبناني ميشيل عون.
تفاؤل اللبنانيين بتشكيل حكومة الحريري
ومع بداية مهمة الحريري، كان هو وجماعات سياسية أخرى متفائلين للغاية بشأن تشكيل الحكومة في هذا البلد. لأن سعد الحريري، خلافا لتوقعات الجماهير، الذي اعتقدوا أنه سيعود إلى السلطة بنفس مناورات فترة رئاسته السابقة، اتخذ في البداية طريقا هادئا وفقا لرغبات القوى السياسية.
حيث بدأ سعد الحريري بصفته رئيس الوزراء تصريف الأعمال في لبنان، بمشاورات مع الفصائل البرلمانية وعقد اجتماعات متكررة مع الرئيس لتشكيل حكومة في أقرب وقت ممكن، أفادت بعدها مصادر رئاسية ووزارية لبنانية بأن عملية التشاور كانت إيجابية بشكل كبير. وانه ثمة هناك مهلة زمنية تمتد من 10 الى 14 يوما لتشكيل الحكومة، حتى أن مصادر مقربة من الحريري قالت إنه يمكن تشكيل الحكومة في غضون أسبوع واحد فقط.
لكن في البداية، كانت هناك خلافات في وجهات النظر بين الحريري وعون حول هيكل الحكومة، حيث اقترح الرئيس تشكيل حكومة متشكلة من 22 وزيرا، لكن سعد الحريري أصر على تشكيل حكومة مؤلفة من 18 وزيرا ودمج بعض الوزارات مع بعضها البعض، واتفق الجانبان في النهاية على تشكيل حكومة تتألف من 20 وزيرا تتناوب فيها المناصب الوزارية بشكل دوري باستثناء وزارة المالية التي تتولاها الجماعات الشيعية.
لكن بينما وعد الحريري بتشكيل الحكومة في غضون أسبوع واحد فقط، الآن وبعد ما يقرب من مضي شهر على ذلك لا يوجد أفق واضح في هذا الصدد، حتى ان استمرار مهمته الموكلة اليه تكتنفها حالة من الغموض. ويبدو أن عدم القدرة على تشكيل الحكومة والمأزق والجمود السياسي في لبنان قد أصبحا سلسلة متكررة مرتبطة مباشرة بالتدخل الأجنبي.
المؤامرات الأمريكية وتكرار الطريق السياسي المسدود في لبنان
بدا غريباً أن سعد الحريري اتخذ موقفاً ليناً تجاه حزب الله بل ووافق على تداول جميع المناصب الوزارية بالتناوب باستثناء تلك التي تشغلها الجماعات الشيعية. وبناء عليه كان من المتوقع ألا تستمر مواقف الحريري هذه حتى النهاية وأن تتكرر سيناريوهاته السابقة بتوجيه مباشر من الخارج لإخراج حزب الله من المشهد السياسي اللبناني.
وفي غضون ذلك، هناك ارتباط مباشر بين التدخل والشروط الأمريكية ومعوقات تشكيل الحكومة في لبنان:
-في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية قرارها بمعاقبة رئيس تيار جبهة التحرير الوطنية اللبنانية جبران باسيل ، والذي يعد أحد أهم حلفاء حزب الله، وحتى بعد أن طالب ميشيل عون بتقديم أدلة على هذا الاجراء، زعمت دوروثي شيا، السفيرة الأمريكية في بيروت، أنه لا يمكن الإفصاح عن الوثائق المتعلقة بهذه القضية. ولا شك أن مقاطعة واشنطن لشخصيات مرتبطة بحزب الله في لبنان هي طريقة تقليدية وضمنية للاغتيال السياسي الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية وهو أمر ليس بالمفاجأ، لكن لماذا أعلنت الولايات المتحدة هذا القرار عشية تشكيل الحكومة اللبنانية بالضبط، أمر يظهر محاولة الأمريكيين خلق أزمة في عملية تشكيل الحكومة اللبنانية بهدف فرض معادلاتهم الخاصة عليها.
-وبعد أيام قليلة من إعلان سن عقوبات على باسيل، أرسل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبعوثه “باتريك دورل” إلى بيروت، في إطار سياسة “الجزرة والعصا” المشتركة مع الولايات المتحدة للدخول في أزمة تشكيل الحكومة في لبنان. وبالتزامن مع وجود مبعوث باريس في بيروت، قالت دوروثي شيا، في إجراء غير ذي صلة ومنحاز أن “شرطنا لمساعدة لبنان في مكافحة فيروس كورونا هو إخراج وزارة الصحة اللبنانية من حزب الله وان يتم العمل والتعاون مع المؤسسات التابعة لواشنطن مثل الجامعة الأمريكية في بيروت”. وأضافت سفيرة الولايات المتحدة “نحن لا ندعم حكومة تتشكل بحضور حزب الله”.
عرقلة السعودية وفرنسا للعملية السياسية اللبنانية
ومن ناحية أخرى، استاءت السعودية من عملية تشكيل الحكومة في لبنان بسبب وجود حزب الله، وفي خطوة مريبة قامت السعودية باخراج سفيرها من بيروت. السعوديون الذين يتضح سجل علاقاتهم العميقة مع عائلة الحريري، أكدوا مرارا أنهم سيعيقون أي تعاون بين سعد الحريري وحزب الله.
وكما هو متوقع، لا ينوي المثلث الأمريكي ـ الفرنسي ـ السعودي وقف مساعيه لإخراج «حزب الله» من المشهد السياسي اللبناني. وقالت فرنسا، التي أرسلت وفدا إلى لبنان الأسبوع الماضي، إنها تعتزم إرسال مستشار الرئيس فرانك دوريل إلى بيروت الأسبوع المقبل لمناقشة التطورات السياسية اللبنانية. كما قال الفرنسيون صراحةً للمسؤولين اللبنانيين من خلال مبعوثهم إن شاغلي المناصب مثل وزارة الطاقة والاقتصاد يجب أن يرشحهم سعد الحريري مباشرةً وأن يتخذوا مناصب تتماشى مع باريس.
بداية مناورات سعد الحريري ضد حزب الله
وبما أن خلفية سعد الحريري السياسية مليئة بمواقف مناهضة للمقاومة ومعارضة علنية لوجود حزب الله في الحكومة اللبنانية ، ولأنه لا يتخذ أي إجراء دون موافقة الولايات المتحدة أو فرنسا أو حتى السعودية، فإن أعذاره لتشكيل “حكومة اتفاق” هي أمر قابل للتكهن، وبحسب مصادر سياسية لبنانية مطلعة، فقد تراجع الحريري عن جميع الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع رئيس الجمهورية والقوى السياسية بشأن هيكل الحكومة، وكما في ولايته السابقة، فقد أصر على تشكيل حكومة “تكنوقراطية” صغيرة لا يحق فيها للقوى السياسية التواجد في الحكومة لا وبل لا يحق لهم أيضاً ترشيح وزراء.
والآن، فان ما نشهده في عملية تشكيل الحكومة اللبنانية يؤكد مرة أخرى أن الفاعلين الأمريكيين والفرنسيين والسعوديين الثلاثة لا يريدون تشكيل حكومة في لبنان لإخراج البلاد من الأزمة الكبيرة التي تمر بها. هذا وقد أثبتوا أنهم في خطة تشكيل حكومتهم المقترحة في لبنان، سعوا إلى إحضار صواميلهم ومساميرهم إلى السلطة، والتي ثبت مرارا وتكرارا أنها تخريبية ومسببة للأزمات؛ أشخاص مثل سعد الحريري، الذي استقال من منصب رئيس الوزراء في الرياض عام 2017 تحت ضغط من المملكة السعودية وحل حكومته لإدخال لبنان في أزمة خطيرة.
تحذير من استغلال واشنطن وتل أبيب للمأزق السياسي في لبنان
في غضون ذلك، على اللبنانيين ألا يغفلوا عن سياسة الولايات المتحدة الامريكية الخطيرة، وهي ذات سياسة الكيان الصهيوني والتي ترمي الى استسلام لبنان لشروط الأمريكيين والصهاينة. وعلى وجه الخصوص، ان المسؤولين اللبنانيين بالإضافة إلى معالجة الأزمة السياسية، تشارك أيضا في مفاوضات ترسيم الحدود مع الكيان الصهيوني. المفاوضات التي تستغلها تل أبيب وواشنطن في اطار خططهم الكثيرة لإساءة استخدام الدعاية لتطبيع الدول العربية مع محتلي القدس.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد ثبت للبنانيين خلال العقود الماضية أن أطرافا أجنبية، ولا سيما الولايات المتحدة والدول الغربية، لم تضمر الخير لهم أبدا، وأن تدخلهم في لبنان لم ينتج عنه سوى الدمار والأزمات لهذا البلد. كما تظهر آثاره الآن بوضوح في السياق السياسي اللبناني.
وبناءً عليه، طالما أن الأيادي الغربية تتابع بنشاط تنفيذ المشاريع التي يريدها الغرب والولايات المتحدة في لبنان، فلا يمكن تقييم نظرة إيجابية لخروج البلاد من هذا المأزق السياسي، وفي الوقت نفسه، مثلما لم يترك حزب الله وحلفاؤه لبنان في الماضي مفتوحا أمام المناورات الأمريكية والصهيونية، فإن هذا لن يحدث مرة أخرى.