أساس ميديا
كتب رضوان السيد….
في الإنجيل أنّ السيد المسيح قال لمارتا وقد أرهقته بأسئلتها الكثيرة المتلاحقة: مارتا! مارتا! تسألين عن أشياء كثيرة والمطلوب واحد! وهذا هو شأن الطبقة السياسية اللبنانية، فهي تدور وتحور حول مسائل كثيرة، وتفاصيل وأقاصيص فاتنة. وغالباً ما يكون محور تلك الأقاصيص ضآلة ما أخذ الواحد منهم مقارنةً بما “أنجز وأحرز” الآخرون. وهم الآن لا يريدون غير الستر وحفظ النفس من الفضيحة! والمَثَل الأبرز في هذا الصدد رئيس التيار الوطني الحرّ الوزير السابق جبران باسيل. فبعد أن نالت من سمعته كلّ الأطراف ما عدا الحزب المعصوم، هجم عليه الثوار قبل عام، وتارةً بسبب المصروفات الهائلة في وزارة الطاقة، وطوراً بسبب التعيينات الإدارية والقضائية والدبلوماسية. وفي كلّ الأحوال، بسبب ظهور الثراء الفاحش عليه! وخلال ذلك تصدّعت علائقه بالقوات اللبنانية ثم بسعد الحريري، بعد أن كانت قد تصدّعت بنبيه بري، فبقي مع الحزب أو معه الحزب لا نعلم. لقد ازداد تراجُعُ زعامته وإقناعه للناس إذن بعد أن ضربت أمواج الثورة الحزب المعصوم وجبران والرئيس، ثم انهارت الحكومة التي شكّلها مع أطراف 8 آذار، وكان الرئيس نبيه بري هو الذي بادر إلى محاصرتها بدون دفاعٍ من الحزب المعصوم. ثم كان أكبر ما حصل لزعامة باسيل خلال السنوات الأربع الأخيرة، عودة سعد الحريري حليفه السابق، عدوه الحالي إلى سُدّة رئاسة الحكومة بالتكليف بعد استشارات متواضعة أُرغم عليها الجنرال المهضوم والزعيم المظلوم، وأيّدها بري في حين ما أيّدها الحزب ولا عارضها. وصمَّم الرئيس وباسيل على منع الحريري من تشكيل الحكومة إلاّ بشروط الشراكة القديمة، بينما صمَّم الحريري على عدم العودة للتجربة المرّة وتجرُّع السُمّ.
كلّ الأطراف، ومنها الحريري، والرئيس بري، وحتى القوات يزعمون الموافقة على المبادرة الفرنسية. إنما من بين هؤلاء، صارح الرئيس وباسيل المبعوث الفرنسي الأخير أنهما يريدان أن يتشاور الحريري معهم بما يعني تسميتهم للوزراء المسيحيين، وحتى تسمية الوزير الدرزي لطلال أرسلان، وأن تكون الحكومة من عشرين. إنما عندما كانا يزيدان في الاشتراطات كانت ضربةٌ قاضيةٌ تنزل بباسيل، وهي العقوبات الأميركية الهائلة عليه. باسيل ما عاد عنده إلاّ رفض رئيس الجمهورية، وتضامُن الحزب المعصوم معه إن أمكن. وقد بدا الإمام المعصوم متضامناً معه بالفعل في خطابه الأخير. لكنه تضامُنٌ مشروطٌ بإمكان حصول مراجعةٍ شاملةٍ ما جرت منذ اتفاق مار مخايل عام 2006. باسيل وخلال أكثر من أسبوعين منذ مطلع شهر تشرين الثاني كان في حيرةٍ من أمره. إذ تأكّد له أنّ العقوبات نازلةٌ عليه إن لم يترك الحزب المعصوم تماماً. لقد فرفَرَ الطفل المعجزة في القفص قليلاً وكثيراً، ثم ارتأى أن يستعصي على الأميركيين، وأن يظلَّ موالياً للمقاومة العظيمة، ليس لأنها ستفوز بلبنان والمنطقة كما كان يعتقد حتى العام 2018، بل لخشيته من عواقب التحوّل. إن عاند الأميركيين فسيخسر حرية حركته والكثير من الأموال لسنواتٍ خمس أو عشر. أما إن أعرض عن الحزب فيصيبه ما أصاب الذين عارضوا حزب السلاح من قبل مثل الشخصيات السياسية والثقافية والإعلامية وحزب الكتائب وتيار المستقبل. ولأنّ الإنسان يملك حياةً واحدةً أو عُمراً واحداً، فقد قرّر باسيل أن يحيا في ظلّ الإمام المعصوم!
ثم إنّ المراجعة التي هدَّد بها الإمام ليست سهلةً أيضاً. سيقول لهم المعصوم: لقد أرغمنا كلّ الناس على مشاركتكم في كلّ الحكومات، وتركناكم تسيطرون على الثروات الهائلة، وعطّلنا البلاد والعباد سنوات من أجل أن يكون زعيمكم رئيساً للجمهورية. أما أنتم فبادلتمونا بالكلام: تأييدنا في حرب العام 2006، وفي احتلال بيروت، وفي عدم قول شيء عن الاغتيالات، وعن التدخّل في سورية. وما كان فضلكم كبيراً في كلّ ذلك لأنّ الجميع سكتوا أو أُسكتوا!
إنما الآن لا حكومة لا بشروط جبران باسيل ولا بدون شروطه. فالحزب المعصوم دخل أيضاً في الـsecond thoughts. لقد اعتقد إحصائيوه واستراتيجيوه الإيرانيون وغيرهم أنّ العقوبات ستتعاظم، وأنّ ترامب سيفوز في الانتخابات، وأنّ الإسرائيليين سيستمرون بعد المرفأ وعين قانا في تدمير مخازن متفجراته وصواريخه. ولذلك دخلوا بسرعة في مفاوضات ترسيم الحدود، ووافقوا على تشكيل حكومة تستطيع الذهاب إلى صندوق النقد الدولي، وتجري إصلاحات تنال من الهدر والسرقة وقد تنال من قدرات الحزب المعصوم وامتيازاته في المرفأ والمطار والمعابر. وقد توقفت الهجمات الإسرائيلية بالفعل، وصارت هناك مفاوضات لإطلاق سراح أسرى أميركيين في إيران وسورية، وإعلان عن توقف الهجمات بالعراق على السفارات وقوات التحالف. وازداد الكلام عن الخلافات بين الحزب المعصوم والزعيم المظلوم. ثم حدثت الانتخابات الأميركية، وكانت المفاجأة رجحان كفة بايدن، وليس ترامب. ورغم “المقاوحة” الترامبية المعهودة، فقد اقتنع الجميع بالداخل الأميركي والخارج بأنّ بايدن هو الرئيس المقبل. والمفروض أنّ القوميين العرب الأفذاذ، وإسلاميي إيران وتركيا، تعالى في أوساطهم السرور والابتهاج، وقد كتبتُ مازحاً إنّ بايدن ربما كانت أصوله بعثية، أو إخوانية (!).
لكنّ هذا كلّه طرح على الحزب المعصوم سؤالاتٍ أُخرى: ما هي الدواعي للتنازلات السريعة، ولماذا لا نُساوم أو يساوم الإيرانيون عليها جميعاً وإذا أعطوا فبمقابل، وربما يسمح لهم بايدن مثل أوباما باستمرار السيطرة في العراق وسورية ولبنان واليمن؟! وفي كلّ الأحوال: لماذا التسرّع بالإعطاء، ولماذا لا ننتظر شهرين أو ثلاثة؟ وخلال ذلك إما أن يشكّل الحريري حكومةً مثل حكومة حسان دياب أو لا يشكّل، فهذا ليس مهماً، ثم في كلّ الأحوال، فلنتظاهر بالتضامن مع باسيل مع أنه لم يعد مهمّاً أبداً وسواء أكان معنا أو كان ضدّنا؟
إنّ هذا المذهب الذي أذهب إليه ليس تخمينياً. فالصحافي الأميركي المسجون بدمشق لم يُطلق سراحُه، والمدير العام للأمن العام لم ينجح في مهمته الرسالية، والضربات عادت في سورية بالاشتراك بين الروس والإيرانيين والحزب وقوات النظام وليس في الشمال فقط، بل وفي الجنوب السوري وفي الجولان. وفي العراق، “دفّشت” الأحزاب الشيعية الموالية لإيران لاشتراع قانون للاستدانة يعزل الأكراد، وجدّدت الحملات على مخيمات اللاجئين السنة بحجّة أنّ الدواعش اخترقوهم. وفي اليمن، تصاعدت إطلاقات المسيّرات والبالستيات على المملكة مع نشاطات ضدّ الملاحة البحرية، وضربات على المدنيين في تعز المحاصرة. وإيران أرسلت ضابطاً في الحرس الثوري “سفيراً” لدى الحوثيين يبدو أنه هو الذي يقود كلّ تلك التحرّكات بعد أن عانت ميليشيا الحوثي من تراجعات في الجوف ومأرب والبيضاء والحديدة في الشهور الأخيرة. وآخر نكتة أنّ الحوثيين أرسلوا “سفيراً” إلى دمشق ليمثّل دولتهم العظيمة لدى النظام السوري!
كان الإيرانيون إذن يريدون استقبال ترامب الجديد بالتنازلات، وهم يستقبلون بايدن، الليِّن في نظرهم، والذي يريد العودة إلى الاتفاق النووي، بالتهديد والتصعيد. وأنا لا أستبعد أن يقوم الحزب المعصوم بتحرّكٍ في الجنوب اللبناني بعد أن أعلن الإيرانيون قبل أربعة أيام أنهم أرسلوا إلى حزبهم بلبنان بالستيات، وصورايخ بحرية تسمَّى صواريخ الخليج الفارسي! فما الحاجة للصواريخ ما دمتم تفاوضون على ترسيم الحدود البحرية على وجه الخصوص؟ ثم إنكم تعرفون أنّ إسرائيل تستطيع العودة لتفجير مخازنكم ومخزوناتكم قبل إطلاقها؟! وكلّ ذلك وسط تصاعد” الشائعات” أنّ ترامب قد يقوم (مع إسرائيل أو بدونها) بشيء ما ضدّ إيران قبل مغادرته غصباً لكرسي الرئاسة الذي ورثه عن جدّه الألماني (!)، ولذا، لا عجب أن “يغامر” الحزب المعصوم بإيقاف مفاوضات ترسيم الحدود فقط بحجة عدم الرضا عن الشروط الإسرائيلية!
يوم السبت في 14/11/2020 نصح غوتيريش الأمين العلام للأُمم المتحدة السياسيين اللبنانيين ربما للمرة العاشرة بأن يسارعوا إلى تشكيل حكومة قادرة على إيقاف الانهيار، وتستطيع الذهاب للمجتمع الدولي بقصد المساعدة. كما نصح حَمَلَة السلاح غير الشرعي بعدم مخالفة القرار 1701 الذي يمنع وجود هذا السلاح في منطقة عمل القوات الدولية. فهل كان ذلك التصريح بسبب الخشية أو المعلومات من شائعات التصعيد والحرب؟
إنما لنعُد كما نصح غوتيريش وقبله المبعوث الفرنسي إلى مسألة تشكيل الحكومة. جبران باسيل ما عاد عنده شيء يبيعه غير رفض أو قبول رئيس الجمهورية. ولا مصلحة له الآن بأيّ حكومةٍ لأنّ الحكومة التي يقبلها هو لن يوافق عليها أحدٌ بالداخل أو بالخارج. ورئيس الجمهورية هو بين الاستمرار في الوقوف إلى جانب باسيل أو القبول بحكومة وسطية بين رجاله ورجال الحريري وبري. إنما في كلا الموقفين، هو محتاجٌ إلى مظلّة الحزب المعصوم، التي لم تعد مفيدةً في حلّ أيّ مشكلةٍ مهما صغرت، لكنهم يستطيعون منع إرغام الرئيس على الاستقالة. والحزب يزعم أنه ما يزال يستطيع القيام بعمليات انتحارية سياسية أو عسكرية ضدّ خصومه أو ضدّ نفسه. والذي نزعمه أنه ما عاد يستطيع هذا أو ذاك بعد الاستمتاع الطويل بمناعم السلطة والمال منذ العام 2006. لكنه كما بدا في الأسابيع الأخيرة (التنازل ثم التصعيد) خاضعٌ للإرادة الإيرانية تماماً، والتي يبدو أنها تعمل كلّ استعدادتها التصيعيدية من أجل صفقةٍ شاملةٍ مع الولايات المتحدة إذ ما عاد النظام الإيراني يستطيع الاستمرار بدونها! ومن مفردات الصفقة بالطبع أن يزول الخطر على إسرائيل من الحزب تماماً، ولذلك ينبغي أن يظهر السلاح الآن وفي كلّ مكان.
الحزب المعصوم يعتمد في تجميد الوضع بدون حصول أيّ شيء، على هشاشة الطبقة السياسية المطيعة. ولدى الطبقة هذه كلّ الأسباب للشعور بالخطر. فقد لاحقَ الأميركيون الحزب المعصوم طويلاً. ثم مضوا باتجاه أنصاره أو مفيديه مثل يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل وجبران باسيل. وهم يقولون الآن إنّ عندهم قائمةً بعشرين من اللبنانيين من السياسيين ورجال الأعمال. وهكذا، فهم يريدون تصفية الطبقة السياسية كلها. عجزت عنها الثورة، وهادنها الفرنسيون بدون فائدة، فلا بدَّ من قطع رأسها بدلاً من جرح ذيلها فتصبح أكثر شراسة! نعم، لا فائدة من إقناع الطبقة السياسية (وليس الحزب وجبران باسيل فقط) بضرورة تشكيل حكومة هم خارجها، ثم إنه لا ضمان للنجاة من العقوبات، ولو كانوا قد عفّوا عن المشاركة في الحكومة!
على ماذا يعتمد السياسيون اللبنانيون؟
بالطبع ليس على شعبيتهم بين المواطنين، ولا على وجود جهات خارجية حريصة على الاستقرار وحكم القانون ونتائج الانتخابات (الديمقراطية) عام 2018! اعتمادهم على التضامن فيما بينهم وعلى تبادل المصالح، وفي الحدّ الأدنى: الحفاظ على النفس، ما دام الإصلاح في إدارة الدولة يعني إزالتهم، وربما محاسبتهم أيضاً!
ولذلك؛ فإنّ الأغلب الأعمّ أنه لن تتشكّل في لبنان حكومةٌ صالحةٌ في المدى القريب، لأن الأمر غير مجدٍ بشروط باسيل وحزب الله، وستزداد الأحوال سوءًا بالتأكيد، وسيظلّ اليأس مسيطراً ما دمنا ندور بين إرادات وهواجس: الإمام المعصوم، والجنرال المهضوم، والزعيم المظلوم! ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.