اذا كانت أساطير الديانات تقول بأن الملك سليمان كان يكلم الطيور والحيوانات ويترجم لغة النمل وقادرا على التنصت على همس النحل .. فان الملك سليمان سيكون عاجزا عن فهم لغة هذا العصر حيث فيه لغة المخابرات والعمليات السرية .. كما انه لايحتاج هذه المهارات في لغات المخلوقات هذه الايام لأنها لن تنفعه كما ستنفعه لو أنه يتكلم مع البنادق والدبابات ويترجم حركة الطائرات ويقرأ لغة جسد الأساطيل .. ويدردش مع طلقات الرصاص .. ويتهامس مع مواقع الفيسبوك ومواقع الانترنت التي تنشر شيفرات حروب الجيل الرابع وتعمل عمل فرق عسكرية كاملة وفيالق اجتياح ..
ومع هذا فليس من الضروري ان تكون جنرالا كي تتكلم مع البنادق وتجالس القذائف وتنادم المدافع .. فكل من عاش هذه الحرب القاسية في سورية صار جنرالا باختصاصه .. حتى المدنيون الذين كانوا في بيوتهم وأعمالهم قرؤوا لغة الحرب وصاروا فيها اساتذة .. ولكن من سيقدر هذه الايام على ان يجيب عن تلك الطروحات التي تقول بأن الحرب قد تندلع في لحظات من الجنون التي تسود في البيت الأبيض .. حيث ترامب الخاسر يريد ان يقوم بآخر عملية لصالح اسرائيل قبل ان يعلن غيابه ويترك للرئيس القادم ملفا صعبا معقدا او شرقا محطما ماعلى بايدن فيه الا ان يرسم لاسرائيل مستقبلها الزاهر .. المسيطر حيث لامنازع فيه ولامقاوم ..
ويستدل البعض على ان المناورات الضخمة التي قامت بها اسرائيل كانت بمثابة استعداد ضخم لمناورة دفاعية تستعد لعملية انتقامية قادمة من الشمال .. او حرب شاملة .. كأن تكون اسرائيل تحضر لعملية اغتيال قاسية تطال أحد أعمدة محور المقاومة في سورية او ايران او لبنان وبعدها تتوقع ان تجري على اثرها عملية انتقام واسعة من اسرائيل ..
ولكن متى كانت المناورات دوما مقترنة بما هو آتٍ في المستقبل؟ وكيف هي لاتقترن بما هو شيء آخر او تمويه من نوع آخر؟؟ وأذكر هنا ان اسرائيل وبعد حرب 2006 أعادت تنظيم جيشها وقواتها وصرنا كل شهر نشهد مناورات متلاحقة وعمليات قتال تدور في بيئات وبيوت تشبه البيوت اللبنانية في الجنوب كأنما تريد أن تقول ان اسرائيل ستعيد الكرة وهي تتحضر لاقتحام بنت جبيل بأي ثمن .. ولكن في نفس الوقت كانت هناك تجري عملية موازية من نوع آخر اكثر خبثا وخطرا .. ففيما كانت عيوننا على المناورات المتلاحقة وانتقام اسرائيل لفضيحتها عام 2006 ونحن نحاول قراءتها وتفسيرها ورسم استراتيجيتنا العسكرية من دروسها .. وفيما كانت أنظارنا ومناظيرنا تراقب بدقة متناهية ديناميكية المناورات وتحركات الفرق والكتائب والوحدات الخاصة الاسرائيلية .. كانت آذاننا تسمع قناة الجزيرة وهي تحرض الوحوش الطائفية بشكل موارب خبيث .. وكانت آذاننا تسمع عشرات المحطات الطائفية الوهابية والتي تحقن السموم والكراهية .. وكنا نظن ان المدافع والدبابات في اسرائيل هي التي تتحضر لقصفنا وان الخطر الداخلي لايمكن ان يتفوق على الخطر الخارجي وأن خطر هؤلاء المشايخ الارهابيين بعيد طالما اننا ممانعون ومجاهدون ورافضون للتطبيع مع اسرائيل .. ولذلك فقد ركزنا على بناء قوة عسكرية رادعة لامثيل لها في الردع وتركنا اللحى تفعل فعلها .. وتبين لنا فيما بعد ان المناورات الاسرائيلية كانت لذر الرماد في العيون واستدراج انتباهنا وعيوننا بعيدا عن التحضيرات الحقيقية لان الحرب التي قرر الاسرائيليون شنها كانت ستبدأ من مكان لايخطر على بال .. فقد كانت ستبدأ في الفضائيات العربية .. وتحديدا من محطة الجزيرة التي تدفق منها عشرات آلاف الارهابيين والاسلاميين ذوي اللحى الذين كانوا ينتظرون ساعة الصفر وتلقوا أمر الانطلاق للهجوم من بث قناة الجزيرة المباشر الذي تحول الى غرفة عمليات اسرائيلية .. دقت محطة الجزيرة ساعة الصفر والقى بيان الحرب الاول الجاسوس الاسرائيلي عزمي بشارة .. وكانت حقيقة هي الحرب الانتقامية الاسرائيلية علينا وليست مناورات لواء غولاني التي كنا مشغولين بمتابعتها .. كانت حرب اسرائيل علينا فيما سمي الربيع العربي والثورة السورية من أقسى المعارك وأشرسها وأخطرها على الاطلاق .. الى درجة انها تستحق بجدارة لقب (أم المعارك الاسرائيلية) .. وكانت المناورات العسكرية التي أظهرتها اسرائيل سابقا خدعة وتمويها لاخفاء الخرق الذي كانت تحدثه بهدوء وصمت خلف ظهورنا في جبهتنا الداخلية التي اخترقت طولا وعرضا باللحى الاخوانية والشعارات الاردوغانية ..
واليوم تجري اميريكا واسرائيل استعراضات بالسلاح والمناورات .. ولكن ماهي التحضيرات الحقيقية التي تجري تحت عيوننا وأنظارنا دون أن ننتبه فيما نحن نركز مناظيرنا على المناورات ونخشى عملية اغتيال او هجوما شاملا .. وهل ترامب قادر على شن حرب وهو يعلم ان اسرائيل قد تتعرض لعملية تخفيف وزن قاسية في هذه الحرب وتخسر مالايمكنها أن تتحمله .. وهل هذه هدية من ترامب ستقدرها اسرائيل له؟؟ ثم ماهو المقابل الذي سيناله كرجل يقايض ويتاجر بالسياسة ولكل شيء ثمن عنده؟؟ ولاية ثانية؟؟
أنا هنا أريد ان تبقى عيون الجنرالات على المناظير طبعا .. ولكن عيون المفكرين ودهاقنة السياسة والتحليل على الداخل السوري حيث عملية اجتياح متعددة الجوانب تجري بخفة في ظل الازمات الاقتصادية والفقر .. اجتياح للعقول والفكر والتربية .. المجال المفتوح في الانترنت في بلد مستهدف ليس فكرة صائبة ويجب ان يعاد النظر فيها .. وأنا أرى ان هناك عملية تجريد للمجتمع من قيمه الوطنية والتركيز على مساحة آلامه لبيع الوهم وبيع القيم الجديدة عبر برامج النت التي صارت تدخل البيوت بسلاسة ..
في كل يوم اسمع عن نشاطات على الانترنت بعضها خيري وبعضها يعتمد على التواصل مع منح دراسية في العالم لمساعدة الشباب السوري .. وعند دخولي على بعض تفاصيل الدردشة والنقاش والمنح الدراسية كنت أفاجأ بمستوى الانحطاط في النقاش وفي نوع النقاشات التي لاتعنينا في مجتمع محارب ويحارب ولديه أعداء كثر متربصون به شمالا وجنوبا وفي الداخل .. والغريب ان الدولة تقوم بمجهود ضخم لتربية وتعليم مئات الألاف والانفاق عليهم في مدارسها وجامعاتها ولكنها في النهاية تخسرهم في تجمعات التشات والنت والبرامج لأن هناك لصوصا دوليين واستخباراتيين في غاية الخبث يقومون بعملية استدراج لهؤلاء الشباب واستئصالهم من بيئاتم نحو أحلام كثيرة وردية .. والثمن هو في تغيير القناعات والولاءات للوطن .. فيصبح الشاب متعلقا بوعد السفر والمنحة الدراسية ولكنه في الطريق الى المنحة يخضع لعملية غسل دماغ والى استجواب ومواضيع وسناريوهات في الأسئلة تطرح عليه تقوم في النهاية بادخال طريقة تفكير اللاانتماء .. فالانتماء يصبح للحلم والوعد .. ويصبح الوطن شيئا مليئا بالعيوب والمشاكل والفساد في نظر آلاف الشباب الذين يفشل معظمهم في السفر ونيل المنحة لأنها تعطى لقة قليلة فقط بعد أن تكون فعلت فعلها في الآلاف .. أسئلة غريبة تسأل للطلاب والمتعلقين في هذه البرامج الخارجية التعليمية .. تطرح أسئلة عن الجنس والمثلية وعن الدين والمال والحرية ولكن بصيغة التشويش والتخريب والتحضير لانشاء مجتمع افتراضي منفصل عن واقعنا .. وهو تحضير لجمهور بطريقة لاتختلف عما أنشأته وفعلته قناة الجزيرة التي كانت تتحدث الى البسطاء والمتدينين وخربت عقولهم وجعلتهم يتعلقون بحلم الدولة الاسلامية والخلافة والجنة والحور العين والتغيير عن طريق الناتو واسرائيل .. وكما تم اعداد هؤلاء الاسلاميين في سنوات قليلة فان هؤلاء الشباب الحالمين بالمنح الدراسية ومشاريع في الهجرة هم نواة مرحلة الحرب القادمة لأنهم سيحمّلون أفكارا غريبة في السنوات القليلة القادمة ومواقفهم يحكمها الشعور بالنقص تجاه الآخر كما هم معظم المغتربين الذين يباهون بعدائهم لبلدانهم على اساس انهم ديمقراطيون وأحرار وأنهم تشربوا الثقافة الديمقراطية الغربية التي تناسبهم أكثر فيباهون بشراسة عداوتهم لبلدانهم .. وجزء كبير من ادعاءاتهم سببه الشعور بالنقص والرغبة في اظهار الولاء للآخر والتماهي به والذوبان في قيمه للحصول على فرص أفضل ..
واذكر هنا أحد الاطباء السوريين الذي ارسل لي بعض الاصدقاء صوره في الولايات المتحدة وهو ينشر على صفحته صوره في المدرسة في المرحلة الابتدائية والاعدادية وهو يرتدي ثياب طلائع البعث ومن ثم ثياب الفتوة ويقوم بالسخرية من تلك المرحلة واطلاق العنان للسانه بالشتائم من الرفاق البعثيين الذين كان يصفق لهم .. رغم ان هذا التافه يشتكي لأصدقائه في اميريكا كم تكلفه تربية أطفاله وكم تكلفه المدارس الخاصة والتعليم والجامعات .. أما هو فقد تلقى كل تعليمه مجانا وأنفقت عليه الدولة البعثية السورية ملايين الليرات وأدخلته الى كلية الطب مجانا ثم فتحت له مشافيها للاختصاص مجانا .. وأرسلته في منحة دراسية وعندما تلقفته أميريكا جاهزا ومشمعا ومعلبا ومختوما كطبيب .. أعطته وظيفة بعد امتحانات انتقالية وصار طبيبا .. ونسي كل مافي وطنه ولم يتذكر من تلك المرحلة سوى انه وقف يصفق للرفاق الذين جاؤوا مرة الى المدرسة لتدشينها وصار يحاضر في احترام الانسان واحتقار الديكتاتوريات .. رغم انه متزوج من عائلة مستفيدة من السلطة في سورية .. وهو يطلب تدخلهم لارغام الجهات الرسمية في الدولة على تسهيل معاملاته كلما تعطل أحد مشاريعه الاستثمارية في سورية ولايتوقف عن تهديد خصومه انه سيلقي بهم في السجون وأقبية المخابرات ان اعترضوه .. ولايكف في جلساته الخاصة عن السخرية من الفساد والفاسدين في سورية .. ولكن في الفيسبوك هو خصم البعثيين والطريقة اللاانسانية في ارغام الطلبة على حضور افتتاح تدشين المدرسة بشكل يهين كرامة الانسان كما يقول .. وكأن ابنه في الولايات المتحدة يجرؤ على التأخر عن حضور مناسبة وطنية امريكية او يجرؤ على السخرية منها ومن ارغام الطلبة على الحضور فيها ..
فيما آخر يزف البشرى لأصحابه على انه في فرنسا مارس حقه الانتخابي الذي حرم منه وصار يكيل المديح لهذا الغرب الذي علمه الديمقراطية وأكرمه بصندوق انتخاب رغم ان هذا الدعي نفسه يتصل بكل المسؤولين السوريين ويتواسط من أجل أقربائه لينالوا حقوقا لايستحقونها ووظائف لاتنطبق عليهم مواصفاتها .. ويستشيط غضبا اذا قيل له انه يخرق القانون .. ولكن في الفيسبوك يصبح ديمقراطيا ويهمه تطبيق القانون والانتخابات على الطريقة الفرنسية الرائعة حيث يأتي ولد اسمه ماكرون يعاني من اضطرابات نفسية ويتزوج مدرسته او جدته ويصبح رئيسا لفرنسا لأن البنوك الفرنسية أرادت ذلك ..
هناك استهداف للكنز البشري الذي اختزنته هذه المنطقة في الفترة التي خرج من الاستعمار بين عام 1945 وعام 2003 تاريخ غزو العراق .. وكما نلاحظ فان الثروة البشرية التي خسرتها سورية والعراق في الحرب لاتعوض ولاتقدر بثمن .. فهناك كثيرون أرغموا على الخروج وكانت الغاية الرئيسية من ترويع السكان في العراق وسورية عبر داعش والنصرة وجيش الاسلام والجيوش التركية الاسلامية الاخوانية هي اجبارهم على الخروج الى المنافي وافراغ المنطقة من العامل البشري الهام .. ولكن معظم هؤلاء من الشباب .. ومايلاحظ ان هذه الطاقات التي استقبلت في أوروبة كثير منها بقي عاطلا عن العمل ويعيش على الاعانات وأنا أتحدث الى كثيرين منهم كل يوم ويتواصلون معي .. وأستغرب كيف انهم لايعملون وانهم يتقاضون نفقات أو أجورا متواضعة .. وأتساءل كيف ان أوروبة تقول انها تحتاج الى سكان ويد عالمة ولكن القليل فقط هم الذين يعملون في وظائف محترمة والباقي عاطلون او نصف عاطلين عن العمل .. فيما ابناؤهم تتم سرقتهم منهم عبر النظام التعليمي الذي سينتصر في النهاية ويجعل انتماءهم للثقافة الجديدة وليس لثقافة آبائهم .. وهؤلاء لن يعود معظمهم الى موطن آبائهم شئنا أم أبينا .. وكأن الغاية كانت اخراج هذه الطاقة البشرية من سورية والعراق ووضعها على الرف حيث تموت في المنافي بصمت وهدوء وبثمن بخس كما يقول خالد بن الوليد (كما يموت البعير الاجرب على فراشه) ..
ومنذ ايام اتصل بي أحدهم وهو من حي المحطة في درعا وقال لي انه ومنذ سنوات يعيش في ألمانيا وشقيقه يعيش في بريطانيا مثله لاجئا ولم يتمكن كلاهما من العمل وهما يعيشان على الاعانات البسيطة رغم انهما متعلمان وأن العمل المتاح له هو سائق تاكسي .. وهو يعاني من الاكتئاب الشديد وأمراض العزلة لأنه يحس أنه مثل المومياء لايعمل شيئا سوى انتظار الموت لأن أجمل ذكرياته وايام عمره المنتجة الرائعة كانت في سورية ..
المهم أن مايحدث اليوم هو استمرار لما حدث بالامس دون أن يتوقف .. ولكن ورغم طواحين الحرب وصليل مسنناتها وصهيل اساطيلها فان الحرب الحقيقية تدور طواحينها ومسنناتها بطريقة صامتة تسحق الشباب والانتماء وتخترق القيم الوطنية وتزرع قيما غريبة جدا عن المال وتسرق الجيل وتجعل السلاح بلا قوة بشرية تمسك به .. او قوة بشرية لاتنتمي للسلاح بل تنتمي لعالم السفر والهجرة والمشاريع الوهمية .. وبدلا من الاشتباك مع سلاح المحور المقاوم يجري تجريد السلاح من الراغبين بحمل السلاح ومن الساخرين من حمل السلاح .. وسيكون أقوى سلاح بلا قيمة عندا يفرغ رأس من يحمله من كل القيم الوطنية .. فما نفع السلاح بلا أفكار تعانقه؟؟ ومانفع السلاح بيد تريد ان تهاجر؟؟
أيها الملك سليمان .. انك وان كنت تفهم لغة الطير وتكلم النمل وتهمس للنحل .. فان حروب هذا الزمان تحتاج من يسمع هسهسة وسائل التواصل الاجتماعي ودبيب اللصوص في أسلاك الانترنت .. وفحيح الشاشات والأيفونات وهي تبث السم في العيون والآذان والعقول والحروف والكلمات والقرآن.
المصدر: نارام سرجون
الإثنين 16 تشرين الثاني , 2020