قادت الولايات المتحدة الحلف الأطلسي منذ منتصف القرن الماضي للتصدي إلى طموحات الهيمنة لدى الاتحاد السوفياتي (أ ف ب)
مع بداية انحسار العصر الذهبي لاستعمار الدول الأوروبية القديمة بعد الحرب العالمية الأولى، بخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانهيار ذلك التيار، شهدنا صعوداً سريعاً للنفوذ والدور الأميركيين في ضبط بوصلة النظام الدولي المعاصر من حيث الأمن والاقتصاد.
ومن الممارسات والترتيبات التي لجأت إليها الولايات المتحدة لتأمين مصالحها وردع المنافسين في ظل هذه المتغيرات، الإعلان عن السياسات الأمنية في مناطق مختلفة من العالم، وتقديم تعهدات للدول بمساندة هذه السياسات في مواجهة أية أخطار، ووصل الأمر من حين لآخر إلى توفير غطاء أمني مباشر لبعضها في سياق المنظومة العسكرية الأمنية، ووصلت هذه التعهدات والضمانات في مجملها إلى 69 دولة، تعداد أفرادها مليارا نسمة، يشكلون ربع سكان العالم.
أحد أبرز الأمثلة على هذه الترتيبات الأمنية، هو الغطاء النووي لليابان وكوريا الجنوبية إزاء المخاطر المحتملة من الصين أو كوريا الشمالية، ضمن شبكة من تحالفات وصفت بالـ “hub and spoke”، وشاركت قوات أميركية مختلفة في كلا البلدين، باستثناء أن الولايات المتحدة تعهدت بشكل علني وفي اتصالات رسمية باستخدام أسلحتها النووية لردع أو هزيمة أي عدوان ضدها، ونشرت أسلحة نووية في جزيرة “أوكيناوا” باليابان حتى 1972، وفي كوريا الجنوبية من 1958 وإلى 1991، وحتى بعد سحب تلك الأسلحة، أكدت الولايات المتحدة التزامها باستمرار الغطاء النووي للدولتين.
ومع التطورات في الأحداث والترتيبات الأخيرة، أثيرت أسئلة كثيرة بين حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، بخاصة اليابان، من خشية أن يؤدي انكماش الغطاء الأمني الأميركي في إطار أي اتفاق مع كوريا الشمالية إلى التأثير سلباً في أمن اليابان، وأولها تهديد الصين ثم كوريا الشمالية.
في إطار آخر، قادت الولايات المتحدة الحلف الأطلسي منذ منتصف القرن الماضي، والذي يجمع أكبر تجمع للدول الغربية في أوروبا وتركيا وكندا وأستراليا في العلاقات الأمنية النووية والتقليدية للتصدي إلى ما كان ينظر إليه على أنه طموحات الهيمنة لدى الاتحاد السوفياتي، الذي جمع في المقابل دولاً صديقة شيوعية التوجه، في إطار حلف “وارسو” الذي تشكل من دول أوروبا الشرقية سابقاً.
وقد عرفت هذه السياسة الأميركية حينذاك بأنها “Truman Doctrine”، وهي التزام ونظرية تشكل جوهر المنظور الأمني الدولي الأميركي، وهذا مثله مثل الساحة الآسيوية، حيث ظهرت أيضاً تساؤلات عدة حول صدقية الالتزام الأميركي بحماية الدول الأوروبية بالأسلحة النووية إذا لزم الأمر، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، الأمر الذي أدى إلى إعادة ترتيب الأولويات الأميركية، وتابعنا أخيراً الأحداث في أوكرانيا والساحة المجاورة لها، حيث لم تتخذ الولايات المتحدة موقفاً متشدداً.
ويُغفل المؤرخون أن الولايات المتحدة رفضت الاستجابة لطلبات فرنسية بتقديم دعم عسكري لها عام 1954 خلال معركة “ديان بين فو” في فيتنام، على الرغم من وجود اتفاق دفاع مشترك بين البلدين، وهي تساؤلات تكاثرت مع قرار ترمب سحب قوات أميركية من ألمانيا.
بالنسبة إلى الشرق الأوسط، تجدر الإشارة إلى أنه في 23 يناير (كانون الثاني) 1980، أعلن الرئيس الأميركي كارتر أن الولايات المتحدة ستستخدم جميع الأدوات العسكرية المتاحة لها لحماية مصالحها في الخليج، أي لحماية حاجات الطاقة الأميركية التي توجد بشكل أساس في الدول العربية، وعلى الرغم من عدم الإشارة في الإعلان إلى الدول العربية وحسب، واستخدام عبارة الخليج الفارسي، اُعتبر ذلك غطاء أمنياً أميركياً للدول العربية في الخليج، وسمي بـ “Carter Doctrine”.
وفُسر ذلك ضمنياً بأنه يعني أيضاً توفير ضمانات أمنية لدول الخليج، ولعل من أهم الأحداث المترتبة على ذلك تحرير الكويت أوائل التسعينيات أمام ما رأت أميركا أنه تهديد عراقي لمصادر الطاقة في الكويت، وقد يمتد إلى السعودية، مما يشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي.
وغني عن التنويه أن التطورات التكنولوجية خلال العقود الأخيرة، والتي سمحت باستخراج الطاقة بالتكنولوجيا الصخرية، وخفضت الاعتماد الأميركي على الطاقة الخليجية، أثرت في ترتيب الأولويات والحسابات الأميركية، كما أن التطورات التكنولوجية في مجال التسلح لها تأثيرها أيضاً، فهي الآن تحمي الممرات المائية، وتستهدف مناطق استراتيجية أو عسكرية لدول معادية من مناطق بعيدة عن موقع الأحداث، واستهدافها محطات تكرير النفط السعودية أثار تساؤلات عدة عن مدى استعداد الولايات المتحدة لترجمة أقوالها إلى أفعال أمنية دفاعية فاعلة، إذا لم يتعرض مواطنوها للمخاطر، بخاصة وقد شرعت في استهداف قاسم سليماني فقط بعد تعرض بعض العاملين الأميركيين للمخاطر.
أهم وأقوى علاقة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط هي العلاقة مع إسرائيل، التي قد تكون الأكثر استقراراً وشمولاً، على الرغم من عدم وجود اتفاق حكومي رسمي لحماية إسرائيل، وعدم وقوعها تحت الحماية الأميركية أو الآسيوية أو الأوروبية، أو حتى الضمنية وفقاً لـ “Carter Doctrine”، فالمساعدات الأميركية العسكرية لإسرائيل لا مثيل لها في المنطقة من حيث حجم المنح ونوعية السلاح ونقل التكنولوجيا، كما أن الدعم السياسي المقدم إلى إسرائيل، مع كل تجاوزاتها، فريد من نوعه، علماً بأن انضمام الولايات المتحدة وإسرائيل إلى اتفاق الدفاع تم طرحه مرات عدة، من دون أن يتوفر له الزخم السياسي الكافي من كلا الجانبين، لأن إسرائيل تشعر أن هذا قد يحد من حريتها في الحركة، وخوف أميركا من تكرار الأعمال الإسرائيلية التي قد تقودها إلى مواجهات إقليمية ضرورية لا تتوافق مع أولوياتها.
وعلى الرغم من قوة واستمرارية العلاقة الأمنية الأميركية – الإسرائيلية التي تحظى بدعم سياسي واسع من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إلا أن هناك عدداً من التساؤلات في الساحة السياسية الأميركية والإسرائيلية، حول مدى صدقية استعداد الولايات المتحدة للدفاع عن إسرائيل وسياساتها، لأن المجتمع الأميركي منهك من الحروب، ومنزعج من الشرق الأوسط بصفة خاصة، مما يجعله غير متحمس إلى الانسياق وراء رئيس وزراء إسرائيل في التصدي عسكرياً لإيران، وعلى رأس المعارضين لذلك الرئيس ترمب ذاته، على الرغم من أنه أقرب المقربين إلى إسرائيل والداعمين لنتنياهو.
ونتيجة لذلك، بدأ أصدقاء وأعداء ومنافسو أميركا حول العالم وفي ساحة الشرق الأوسط بإعادة تقويم المفاهيم الأمنية الأميركية المعاصرة، والدور الأمني الذي يمكن أن تقوم به، على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين يشيرون إلى أن قوتهم في الشرق الأوسط لم تتضاءل بشكل كبير أخيراً.
وفي هذا السياق، تقتضي الأمانة المصارحة بأن الكل مخطئ، فالضمانات الأمنية الأميركية صيغت وطرحت بكل توضيح على أن الغرض الأساس منها والحاكم لها هو حماية المصالح الأميركية، وليس الدفاع عن حلفائها إلا بمفهوم المخالفة، ولذلك فليس من المستغرب أن يتغير التطبيق مع تغير الظروف والمصالح.
وبغض النظر عمن كان سيفوز خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، كنا سنشهد انكماشاً في الاستعداد الأميركي للدفاع عن الحلفاء، وقد أعذر من أنذر، بخاصة مع ما نشهده من انكماش سياسي أمني ودبلوماسي في عهدي أوباما وترمب، في مختلف أنحاء العالم.
الولايات المتحدة ليست مدعوة لاستخدام قوتها العسكرية سريعاً أو من دون حسابات دقيقة، لكن المشكلة هي أن صدقية الضمانات الأمنية الأميركية قد تلاشت إلى حد كبير، بسبب الشعور العام بأن البلاد أصبحت أكثر عزلة وأقل استعداداً لتحمل المخاطر أو الخسائر الإنسانية دفاعاً عن العلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء أو الأصدقاء، وهو ما يقلق الصديق ويشجع المنافس أو العدو على المخاطرة، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات على الأمن والسلم الدولي، بما في ذلك المصالح الأميركية والدول الكبرى والعالمية الرئيسة.
يجب على الأصدقاء قبل الأعداء تقويم صدقية وفعالية الضمانات الأمنية الأميركية على مدى العقد المقبل، وتقويم العلاقة مع الولايات المتحدة والاستفادة منها قدر الإمكان، واتخاذ ما يراه مناسباً حتى لا ينتهي به الأمر إلى وضع غير مريح أو عادي في التوازنات الإقليمية، بخاصة مع تنافي الصراعات الإقليمية وغيرها، التي لا تؤثر مباشرة في مصالح الدول الكبرى، ومن ثم لا تفعّل ضماناتها الأمنية.