الأخبار
على مسافة أسابيع قليلة من مغادرة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، البيت الأبيض، تشتغل إدارته على تجديد رواية الانسحاب من المنطقة. اشتغالٌ ترافق مع تغييرات واسعة طاولت رأس «البنتاغون» وقيادات رفيعة فيه، لتحلّ محلّها أخرى تدين بولاءٍ أكبر لترامب وسياساته. هل هو انقلاب، أم دفعة للانسحاب، أم مجرّد تصفية حسابات؟ التغييرات، وإن وضعها وزير الدفاع بالوكالة، كريستوفر ميلر، في إطار تسريع عملية الانسحاب مِن المنطقة، فهي تأتي في مرحلةٍ يُفترض أنها انتقالية، حيث يصبح هامش المناورة مرهوناً بالوقت، والوقت ــــ وكذا البيروقراطية ــــ لا يسمحان بسحب آلاف الجنود مع عتادهم، من أجل هدف أوحد عنوانه إحراج الإدارة الديموقراطية المقبلة التي تريد بأيّ ثمن البقاء في المنطقة.
«حان وقت العودة إلى الوطن»؛ بهذه الكلمات، توجّه كريستوفر ميلر إلى القوات المسلحة الأميركية، مبدياً عزمه على تسريع سحب جنود بلاده مِن أفغانستان والشرق الأوسط. وكتب في رسالة إلى هؤلاء، أول من أمس، «كثيرون تعبوا من الحرب، وأنا واحد منهم»، مردّداً ما دأب ترامب على تكراره: «جميع الحروب يجب أن تنتهي». لم تَعد مسألة «تسريع الانسحاب» تدور في فلك التكهُّنات؛ فالتغييرات التي أحدثها الرئيس الأميركي في «البنتاغون» تبدو، في جزءٍ منها، موجّهة نحو الهدف الآنف. خطوة طرد وزير الدفاع السابق، مارك إسبر، وما تبعها مِن موجة استقالات وإقالات، في موازاة تعيين ترامب مقرَّبين يدينون بالولاء له في مناصب مدنيّة مهمّة في الوزارة، أثارت مخاوف المراقبين من احتمال تسييس المؤسسة العسكرية.
بعد يوم من إقالة إسبر بداية الأسبوع الماضي، استقال القائم بأعمال وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسة جيمس أندرسِن، ووكيل الوزارة لشؤون الاستخبارات جوزف كيرنان، وكبيرة الموظفين جينفر ستيوارت. وكشف موقع «ذي إنترسبت» أن نائب رئيس أركان وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسة، مارك تومب، أُجبر هو أيضاً على الاستقالة، فيما جاءت الاستقالة الأحدث، يوم الخميس، مع تنحّي نائب كبير موظّفي «البنتاغون» أليكسيس روس. عمليات التسرُّب هذه أفسحت المجال أمام شخصيات يُنظر إليها على أنها أكثر تفانياً في حماية ترامب وتنفيذ سياساته، لتحلّ في مراكز رئيسية في الوزارة؛ فاستُبدل أندرسِن بنائبه أنتوني تاتا، بينما حلّ كاش باتيل، المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي، والذي عمل مساعداً للنائب الجمهوري عن ولاية كاليفورنيا، ديفين نونيس، (وهو من أشدّ الموالين لترامب)، محلّ ستيورات. وعُيِّن إيزرا كوهين واتنيك، المساعد السابق لمستشار الأمن القومي الأسبق، مايكل فلين، بدلاً من كيرنان. كذلك، عُيّن الكولونيل السابق في سلاح البرّ، دوغلاس ماكغريغور، في منصب كبير مستشاري وزير الدفاع. يُعدُّ ماكغريغور مِن أشدّ مؤيّدي الانسحاب من أفغانستان مهما تكن الظروف على الأرض. فهو يرى أن «تاريخ رحيلنا لن يغيّر شيئاً. كلّ شيء سينهار. لكن النبأ السارّ هو أنه عندما نرحل على الأقلّ، لن ندعم بعد الآن الفساد ولا أكبر منتج للهيرويين في العالم». وفي حديث إلى «فوكس نيوز» عام 2019، أكد أنه سينصح الرئيس بالخروج من أفغانستان «في أقرب وقت ممكن»، وإغلاق السفارة الأميركية في كابول، وتعليق المحادثات مع «طالبان» لأنها «غير ضرورية». موقفه هذا ينسحب أيضاً على الدور الأميركي في سوريا؛ إذ يعتبر أن هناك ضرورة لسحب القوات الأميركية من هذا البلد لـ»انتفاء مصالح الولايات المتحدة». ويرى أن بلاده «تحتاج إلى الاستماع بعناية شديدة إلى الإيرانيين… ومعرفة ما هي مصالحهم والبحث عن المجالات التي يمكننا التعاون فيها». وضَع ترامب الانسحاب من المنطقة هدفاً في حملته لانتخابات 2016، وردّد طوال سنواتٍ أربع عزمه على الدفع قُدُماً بخطّته، التي من أجلها، بدّل وزراء دفاعه، وأبرزهم جيمس ماتيس الذي استقال في أعقاب إعلان الرئيس خطّته للانسحاب من سوريا. أُعلن عن خفضٍ لعديد القوات، وإعادة انتشار، لكن أيّ انسحاب جدّي لم يكن موجوداً ضمن مخططات وزارة الدفاع. وهو ما أكّده مبعوث الإدارة الأميركية الخاص في شأن سوريا، جيمس جيفري، قبل مغادرة منصبه؛ إذ كشف، في مقابلةٍ مع موقع «ديفنس وان»، أن فريقه أخفى المستوى الحقيقي لوجود الولايات المتحدة العسكري في سوريا، عن البيت الأبيض. وقال: «مارسنا دائماً لعبة الكؤوس والكرة (لعبة خداع) كي لا يتّضح لقيادتنا كم مِن القوات لدينا هناك». واعترف الدبلوماسي بأن التعداد الفعلي للقوات الأميركية في شمال شرق سوريا «أكبر بكثير» من 200 عسكري وافق ترامب على إبقائهم هناك، مضيفاً: «عن أيّ انسحاب من سوريا تتحدّثون؟ لم يكن هناك أيّ انسحاب من سوريا».
موجة النزوح الجماعي من «البنتاغون»، والتي جرت يوم الثلاثاء الماضي، كان مخطّطاً لها منذ أشهر، وفق مسؤول في إدارة ترامب تحدّث إلى موقع «إنترسبت». وكشف عن قائمة بأسماء مسؤولين آخرين في «البنتاغون» لا تزال إقالتهم قيد الدراسة، مشيراً إلى أن إلين لورد، وكيلة وزارة الدفاع للاستحواذ والدعم، التالية. «الرئيس يستعيد السيطرة على وزارة الدفاع. إنها ولادة جديدة للسياسة الخارجية»، بحسب هذا المسؤول الذي يرى أن التغييرات ستساعد في تمهيد الطريق أمام ولادة جهاز أكثر ولاءً لتنفيذ أهداف ترامب، وأهمّها انسحاب القوات الأميركية من النزاعات الخارجية. في الإطار عينه، نقل ديكستر فيلكنس في تقرير لمجلة «نيويوركر» عن مسؤول في الإدارة يلتقي ترامب بانتظام، قوله إن الرئيس المنتهية ولايته مصمّم على إعادة جميع القوات الأميركية المتبقية في أفغانستان، والبالغ عديدها 4500 جندي، أو على الأقلّ أكبر عدد ممكن قبل مغادرته منصبه. وقال المسؤول: «إنه يريد أن يضعنا في مسار لا رجوع فيه نحو انسحاب كامل».
ثمّة من يؤكّد أن البيروقراطية الواسعة في «البنتاغون» وتراتبية القيادة العسكرية تجعل أيّ تغييرات جذرية في أقلّ من 70 يوماً، صعبة. يفيد مارك كانسيان، المسؤول الدفاعي السابق الذي يعمل في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، بأن ترامب لن يفعل الكثير، لكن محاولة سحب بعض الجنود من أفغانستان ليست مستحيلة، إلّا أن الجيش «ربّما يُبطّئ من اندفاعته». يسعى الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، من وراء كلّ هذه الخطط، إلى تهيئة ظروف سياسية «مفخّخة» لإدارة بايدن، على ما يبدو. إذ إن أيّ إعادة انتشار للقوات الأميركية المُنسحبة مِن شأنها أن تؤسّس لفكرة مفادها أن الحزب الديموقراطي هو عرّاب «الحروب الأبدية»، في حين سيكون بإمكان ترامب، ربّما، أن يدّعي ــــ صادقاً ــــ أنه ليس أوّل رئيس يتجنّب خوض حربٍ منذ 40 عاماً فحسب، بل الأوّل الذي يُنهي احتلال أفغانستان.