لماذا أتابع الانتخابات الأميركية؟ كانت قضية الزنوج في الولايات المتحدة قضية شبابي الأول وكأن حريتهم قوت يومي وأفق عالمي
تُعرض أقنعة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن والرئيس دونالد ترمب في سايتاما في اليابان (رويترز)
يحوي دكان أبي جهاز راديو ماركة “فيلبس” مميزاً، كثيراً ما وضع خارج الدكان فوق طاولة، ليتابع من يريد من رواد سوق “دكاكين حميد” المناسبات المميزة التي تنقل عبر الأثير، كعيد الاستقلال، وخطب الرئيس جمال عبد الناصر. كنت طفلاً حين نقلت إذاعة البلاد على الهواء مراسم تشييع جثمان الرئيس الأميركي المغتال جون كيندي. تابعت ذلك مع الكبار بشغف الطفولة، وشدني اسم كيندي أكثر من الأسف على مقتله، الذي عبر عنه كثيرون من الحضور.
كنت في الثامنة من العمر عندما حدث ذلك، لكن الولايات المتحدة الأميركية كانت حاضرة في طفولتي قبل. فكثيراً ما تردد اسمها في دكان والدي القومي الناصري، خصوصاً عند رفض وجود القاعدة الأميركية “هويلس” في طرابلس الغرب. أو عند الحديث عن “النقطة الرابعة” التي كانت تقدم الدعم لليبيا الشديدة الفقر آنذاك، ومنه الحليب الذي يوزع علينا في المدارس وأكياس الطحين التي أشاهدها في مخبز أبي، موسومة بالعلم الأميركي وبيدين تتصافحان. عرفت من أبي أنها يد أميركا تسلم ليد ليبيا الدقيق بترحاب. وقد شاهدت المشهد نفسه على الأكياس، على أجساد أبناء جيلي من الأطفال الفقراء، وقد حورت لقميص أو سروال.
وفي هذا الوقت، انتشرت في البلاد اللعبة الأميركية “هيلا هوب”، وطبعاً أفلام الكرتون ديزني، خصوصاً “توم وجيري” اللذين شُغفت بهما، أفلام الأطفال كانت تعرضها لنا في الساحات، سيارات وزارة الأنباء والإرشاد، كل أسبوع تقريباً.
كنت في سن المراهقة، 21 يونيو (حزيران) 1970، عندما تم إجلاء “هويلس”، القاعدة الأميركية الأكبر في الشرق الأوسط. خرجت مع المتظاهرين فرحاً بطرد الإمبريالية من بلادي. كنت ساعتها قد قاطعت مشاهدة الأفلام الأميركية في السينما، وصرت كارهاً للغة الإنجليزية، التي رسبت فيها في المرحلة الإعدادية، ومؤيداً لقرار إلغائها من مناهج المرحلة الابتدائية.
حين كنت شاباً، وفي سنة 1978، دخلت السجن بتهمة خطيرة، أنني أعمل على إسقاط النظام، الذي كان يواجه الإمبريالية الأميركية وكثيراً كثيراً من دول العالم. في السجن عدد كبير من السجناء متهم بالعمالة لدول خارجية على رأسها الاتحاد السوفياتي ومصر أنور السادات. ولم يكن ثمة نصف سجين متهم بالعمالة للعدو الأول الإمبريالي الأميركي! وكان الأكل الذي يُمنح لنا بفضل النفط الذي تستخرجه وتستثمره شركات العدو. ولما كنا في السجن أبريل (نيسان)، (شهر الطير بتسمية معمر القذافي) 1986 قصفت الطائرات الأميركية ليبيا، العدو الأول لأميركا حسب تخرصات الرئيس دونالد ريغان.
لقد عشت حياة محفوفة بأميركا، القوى العظمى الأولى في العالم، الذي كانت ثقافته في الجوهر والتفاصيل أميركية، وهي كما “الدولة العميقة” في العالم، حتى ولو تفوقت دولة كالصين اقتصادياً. ومن ذلك، كانت الانتخابات الأميركية في ما يشبه كأس العالم لكرة القدم، كل أربع سنوات تكون الفعل الشاغل للدول جملة وبالضرورة. وما يتابعه الشعوب، ولو بالمعنى الذي يردده اليساريون: أنها انتخابات بين بيبسي كولا وكوكا كولا، بتحوير لجملة كاسترو “لا فرق بين فردتي الحذاء، إذا كان ينتعلهما الشخص نفسه”. وفي هذا، كنت كما كاسترو، أعرف أنها حذاء يلبسه الشخص نفسه، لكن كنت كما كاسترو أيضاً أتابع مجريات انتخابات هذا الحذاء، فلابسه نعته جيفارا، رفيق كاسترو، بالفيل، وليس الحمار! وحذاؤه ثقيل على قلب العالم، أو كذلك أوّلت تعبير كاسترو، بالاستعانة بنعت رفيقه المغدور.
الآن، وفي الشيخوخة، كمواطن في العالم الأميركي منذ سقوط سور برلين، صار غصباً وضرورة أن نفرق بين منتعل وآخر، بين الحاج مفتاح ومفتاح الحاج، في زمن الهوية السيبرانية ما ندجن فيه رقمياً، إذ “تقوم رأسمالية المراقبة على النظر إلى التجربة الإنسانية بوصفها مادة مجانية خام قابلة للترجمة إلى بيانات سلوكية”، ضمن “مرحلة جديدة من تطور الرأسمالية، قائمة على مراقبة الأفراد والمستخدمين، والانتقال من الإنتاج والتسويق، نحو الاستثمار في السلوكيات البشرية المستقبلية”، المقاربة للأديبة وعالمة النفس الأميركية شوشانا زوبوف.
والآن، خصوصاً في السنوات الأربع العجاف، سنوات الترمبية الساحقة، نحن مأسورون إلى تغريدة وتغريدة تجيبها، في رهان من رئيس الدولة الكبرى الأولى على أن يكون متى أراد وكيفما أراد، فيكمّ الأفواه الخائفة من الجائحة، ويحرض الخائفة من الجوع على عدم التكميم. وفي هذه الحال تبدو لي متابعة الانتخابات الأميركية، لزوم ما يلزم.
وفي الختام، أذكر أنني تابعت انتخابات 2008، بروح مغايرة، لعل المقطع التالي، مما كتبت حينها يبين الفارق وكيف كانت المقاربة “تابعت في سنين العمر الأولى، قضية الزنوج في أميركا، التي كما لو كانت زرائب العبيد في حي الصابري، في مدينة بنغازي حيث أقطن، وكان مارتن لوثر كينغ، كما بوسعدية الزنجي الذي يتلفع العظام وعلب الصفيح الفارغة، ويدق طبله في عيد الزنوج، في حيهم زرائب العبيد، هذا البوسعدية الذي يجعلنا نمسك نحن الأطفال، كل منا ظهر الآخر، مغمضي العيون نردد:
“وين حوش بوسعدية ما زال لقدام شوية”
هكذا كانت قضية الزنوج في الولايات المتحدة الأميركية قضية شبابي الأول، وكأن حريتهم قوت يومي وأفق عالمي. أميركا بعد الحرب الثانية قائدة العالم، وأميركا مجتمع إنساني لا مثيل له في تاريخ البشرية، من هذين كانت تعشش هذه القضية، في صدور قاطني الكرة الأرضية، حتى زرائب العبيد في حي الصابري.
لذا كان القس مارتن لوثر كينغ، كما نبي عصري يلهج بما في صدور الناس كافة، ولم يكن بعيداً عنا، كان الترانزيستور قد تكفل باختصار المسافات. ووقتها، كما كان النبي أسود كان الشيطان أسود، تشومبي عميل الاستعمار، من غدر بباتريس لومومبا الثائر الأفريقي، لقد كانت نهضة العالم من بوتقة سوداء.
هذا في سني العمر الأولى، ولم يمر عن ذلك كثير. بين العقد السادس في القرن الـ 20، والعقد الأول في القرن الـ 21 سنوات قليلة، كي يظهر مارتن لوثر كينغ ليس كقائد حركة الزنوج في أميركا قائدة العالم فحسب، ولكن كإمكانية مضطردة لقيادة العالم من خلال منصب رئيس للولايات المتحدة ذاتها، التي اغتالت القس الزنجي بالأمس القريب، واليوم تنقاد لحفيده أوباما. فأي تغير عظيم حدث في العالم؟