الأخبار- هيام القصيفي
في ظل وجود رئيس للجمهورية، ورئيسَي حكومة: واحد مستقيل وآخر مكلّف (ومجلس أعلى للدفاع)، ثمّة شعور بغياب العناصر الفعلية لاتخاذ قرارات واضحة حيال الوضع المتدهور سياسياً وأمنياً واقتصادياً. القرار الوحيد الذي اتّخذ منذ سنة حتى الآن، وإن شابته التباسات، كان قرار بدء المفاوضات غير المباشرة مع «إسرائيل» لترسيم الحدود البحرية. ومع ذلك، لم يسلم هذا القرار من تداعيات داخلية، منها ما تحدّث عنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أخيراً، ومنها ما ارتدّ داخلياً في القصر الجمهوري. كذلك ما انعكس شعبياً في طريقة تعامل كل المكونات اللبنانية مع قرار الترسيم، وفق قناعات واعتبارات متناقضة، رافضة أو مؤيدة، تركت مناخات مقلقة وسط مناخ عربي وخليجي يثبت خطواته في تطبيع العلاقة مع «إسرائيل». عدا ذلك، هناك غياب فاضح في التعامل الجدي مع كل الاستحقاقات، بما في ذلك العقوبات الأميركية.
حتى الآن، مرت ثلاثة أسابيع على تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة، زار بعبدا خلالها أكثر مما زارها أقرب المقربين الى رئيس الجمهورية، بحسب تعبير أحد السياسيين، من دون أي تقدم فعلي. لكن المشهد السياسي تبدّل جذرياً، بفعل جملة إشارات موضوعية في التعامل مع تريث الحريري، خلافاً للمرات السابقة. لم يعد مطروحاً الكلام عن سحب التكليف إذا طالت المهل ولو تعدّت الأشهر، وكأن هناك تسليماً بأن الوقائع المستجدة باتت تفرض سلوكيات مختلفة، وتترك المجال لاستغلال المظلة الفرنسية في توقيت مناسب الى الحد الأقصى، علماً بأن أجواء الدوائر الدبلوماسية الفرنسية باتت أقرب الى عدم الاهتمام بالوضع السياسي اللبناني، والانشغال بما يحصل في أوروبا والمتوسط وشمال إفريقيا أكثر مما يحصل في لبنان. في المقابل، يبقى إصرار رئيس الجمهورية على عدم توقيع مرسوم تأليف حكومة يعطى فيها الحريري ما لا يحق له فيها. هذا الأمر محسوم ولا علاقة له بمفعول أي عقوبات. أكثر من ذلك، لا خطة عمل واضحة ولا خطوات متقدمة وفاعلة، علماً بأن عدم تأليف حكومة هو بالمعنى العملي أزمة سياسية تحتاج في ظل المشهد الداخلي والإقليمي الى أداء مختلف عن المراحل السابقة. بل إن الإرباك السياسي بعد العقوبات يوازي بمستواه فورة الانتصار الاستباقي بتحقيق خرق حكومي على حساب الحريري والخصوم معاً في تأليف الحكومة. ورغم أن مسار العقوبات المستمر ينذر بما هو أسوأ، ولا سيما أنه يترافق مع مؤشرات تصعيد أميركية في المنطقة، فإن مقاربته لم تتعدّ السجالات الشخصية، ولم تقترب جدياً من الإحاطة الشاملة بما قبله أو بعده في صورة مكبرة. مع أن احتمالات وجود مروحة واسعة من الذين ستفرض عليهم عقوبات من اتجاهات سياسية مختلفة باتت أكثر شيوعاً من قبل. ثمّة من يتحدث بجدية عن مشاركة لبنان كدولة وليس كأفراد في مؤتمر سوريا للنازحين، وهل يمكن أن ترتد عليه أميركياً في طريقة تعامله مع النظام السوري. إضافة الى أن ترجمة عملية لمفهوم العقوبات وأسلوب التعامل الدبلوماسي الداخلي معه، سيحتاج إلى وقت للتأقلم معه واختبار آلياته أميركياً ودولياً. وإذا كان من المبكر تلمّس انعكاس السياسة الأميركية تجاه لبنان قبل اتضاح ما يجري في البيت الأبيض، فإن التعامل الرسمي مع العقوبات من خلال إطار ضيّق، من شأنه أن يساهم أكثر في عدم تحديد رؤية واضحة لسياسة امتصاص الصدمات.
الفراغ الثاني مالي واقتصادي. ففي المرحلة التي سبقت التظاهرات وبدء مرحلة الانهيار الفعلي، دعيت فاعليات اقتصادية ومالية وخبراء، وشكلت لجان وعقدت اجتماعات لدراسة الوضع وتقديم نصائح واستشارات. ورغم التخبط في مواجهة الأسابيع الأولى من الأزمة، سجلت محاولات خجولة لوقف النزف. لكن مع تسجيل مزيد من التدهور، وتضاعف مصاعب اللبنانيين وإفقارهم، وإمعان المصارف في إذلالهم، لجأت السلطة السياسية الى التعامي تدريجاً عمّا يحصل، مكتفية بحصر السجال واللقاءات بالتدقيق الجنائي، على أهميته وضرورته، وإدخال اللبنانيين في زواريب اللجان والتدقيق والأرقام. بدت السلطة السياسية شهراً بعد آخر كأنها تتعايش من دون أي خجل مع واقع تحوّل اللبنانيين إلى فقراء، ولم تعد تعتبر أن الحاجة ملحّة الى طاولة حوار اقتصادي كالتي جرت في أيلول عام 2019، ولا الى حوارات مع هيئات اقتصادية وازنة، رغم أن كارثة المرفأ، وحدها، أصابت الاقتصاد اللبناني بهزة كبرى، أضيفت الى مصائب سنة كاملة من الانهيار. هناك مستوردو مواد غذائية وأدوية يتحدثون في دوائرهم الضيقة عن الأساليب الملتوية التي يعتمدها مصرف لبنان معهم، كل يوم بطريقة مبتكرة، الأمر الذي سيقلص مهلة الأشهر القليلة التي يجري الكلام عنها لوقف استيراد مواد وأدوية أساسية. ما يتحدث عنه الخبراء الاقتصاديون الجديون مع معنيين، وما يحذّرون منه من سيناريوات كارثية من خلال الأرقام والمعلومات الموثوقة، لم يعد يجد آذاناً صاغية لدى أركان السلطة السياسية، التي قررت أن تبقى في ظل حكومة متعثّرة، ثم مستقيلة، رهن قرارات حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، وشركائه، تاركة الأزمة معلّقة إلى ما بعد تأليف الحكومة ولو استغرق سنة كاملة.