تحقيقات - ملفات
سياسة خارجيّة لما بعد ترامب
مع دخول جو بايدن المكتب البيضاوي، سيجد بريداً مهولاً لما يحتويه من تحدّيات محليّة ودولية. وبما أنّ الرؤساء يمتلكون الوقت والموارد اللازمة، فلا مفرّ من مباشرة العمل ووضع لائحة واضحة بالأولويات التي تعكس تقييمهم للضرورة والفرصة والواقع.
العالم بحاجة ماسّة إلى الإصلاح، إلّا أنّ تلك عملية تستغرق وقتاً، وتتفاوت نسب نجاحها. لذلك، ينبغي تكريس الفترة الأولى من السياسة الخارجية لإدارة بايدن لإصلاح ما فسد، حتّى تُتاح فرصة البناء لاحقاً. فمع حلول يوم التنصيب، من المحتمل أن يكون الوباء قد أودى بحياة 300 ألف أميركي، وبلغت نسبة البطالة ما بين 6% إلى 7%، في وقتٍ يبدو فيه أنّ ملايين الأميركيين عاجزون عن سداد أقساط الإيجار أو الرهن العقاري.
التحديات الداخلية التي تواجهها أميركا المنقسمة، تفوق قدرتها. ما يزيد على 70 مليون أميركي، صوّتوا لمصلحة دونالد ترامب. معظم هؤلاء سيصدّقون رواية الرئيس القائلة إنّ الانتخابات سُرقت منه. سينقسم المجتمع الأميركي حول القضايا الاجتماعية، والحزبان حول القضايا السياسية. وعلى رغم أن التحديات المحلّية ستستنزف وقت بايدن وموارده، إلّا أنّ التحديات الدولية لن تسمح له بلملمة شتات إدارته.
يعزى ذلك جزئياً إلى سياسات ترامب التي أبلت بلاءً حسناً في بعض المجالات مثل: محاسبة الصين على ممارساتها التجارية، وتزويد أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة، وإبرام اتفاق جديد تجاري مع كندا والمكسيك، ولعب دور الوسيط في التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية. إلّا أنّها أخطأت في: تقويض التحالفات التي كانت الحجر الأساس للاستقرار الدولي، الانسحاب من الاتفاقات والمؤسسات الدولية، التقرّب من القادة الاستبداديين في الصين وكوريا الشمالية وروسيا وتركيا، ناهيك عن انتهاكات ترامب المتكرّرة للأعراف والسياسات الديموقراطية، مثل فصل الأطفال المهاجرين عن ذويهم عن الحدود الأميركية ــــ المكسيكية.
لكن إلقاء اللوم على سلفه في معظم التحديات الدولية التي تنتظر بايدن، سيكون بمثابة قراءة خاطئة للتاريخ. فقد لعب الكثيرون دورهم قبل فترة طويلة من ترامب، وسيستمرّون لفترة طويلة بعد خروجه من المكتب البيضاوي: الصين الصاعدة والأكثر حزماً، روسيا المستعدة لاستخدام القوة العسكرية والقدرات السيبرانية لتحقيق أهدافها، كوريا الشمالية ذات القدرات النووية والصواريخ الباليستية المتزايدة، إيران الملتزمة بتنفيذ استراتيجية إمبريالية في شرق أوسط مضطرب، تغيّر المناخ، الحكومات الضعيفة وغير الفعّالة في معظم العالم النامي، وأزمة اللاجئين. ولن تحلّ المشكلة بمجرد عكس ما فعله أو لم يفعله ترامب.
أولى أولويات الإصلاح هي الصحة العامة. على إدارة بايدن أن تعمل على احتواء الوباء، ويبدو أنّ وصول العلاجات واللقاحات سيساهم في ذلك، فضلاً عن تشجيع السلوكيات المسؤولة كارتداء الكمامات. احتواء الوباء أمر ضروري لإنعاش الاقتصاد، ولاستعادة سمعة الولايات المتحدة من حيث الكفاءة، ولإعطاء الإدارة الجديدة الزخم لمعالجة المشاكل الأخرى على الصعيدين المحلّي والدولي.
تبدأ الخطوة الأولى في إعادة الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية ومساعدتها على مواجهة الجائحة الحالية. كذلك، يجب أن تشارك أميركا في الجهود الدولية لتطوير وتصنيع وتمويل وتوزيع اللقاحات، بما يضمن استفادتها من اللقاحات التي ستكتشف في دول أخرى، ما سيساهم في استعادة مكانتها في العالم، فضلاً عن تسريع الانتعاش الاقتصادي العالمي.
ثاني أولويات الإصلاح، هي التحالفات، إذ تعدّ جوهر السياسة الخارجية الأميركية وتوفّر الموارد لمواجهة التهديدات الأمنية المحلية والتحديات العالمية. ومع ذلك، فقد معظم حلفاء الولايات المتحدة الثقة بها، في السنوات الأخيرة، نتيجة عدم استعدادها لمواجهة الخصوم وتحفّظها على الوقوف إلى جانب الأصدقاء.
يمكن أن تتخذ إدارة بايدن خطوات ملموسة تظهر التزامها تجاه الحلفاء، على غرار وقف الانسحاب غير الحكيم للقوات من ألمانيا، وحلّ الخلافات مع كوريا الجنوبية بشأن الدعم المالي للقوات الأميركية المتمركزة هناك، وإعادة النظر في الاتفاقية مع «طالبان» لسحب القوات الأميركية من أفغانستان، هذا إضافة إلى التنسيق مع فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة لصياغة توجّه جديد في التعامل مع إيران. أمّا في آسيا، فيمكن لإدارة بايدن أن تبدأ في الحال بإجراء مشاورات مع كوريا الجنوبية واليابان بخصوص كوريا الشمالية.
كذلك، عليها أن تؤكّد عودة التعددية من خلال انضمامها مجدداً إلى الاتفاقيات والمؤسّسات الدولية ــــ لأنّ ذلك من مصلحة أميركا. وبالإضافة إلى منظمة الصحة العالمية، فإنّ اتفاق باريس للمناخ الذي يخطّط بايدن للانضمام إليه قريباً، يعدّ مكاناً مناسباً للانطلاق؛ كذلك تمديد اتفاقية «نيو ستارت» التي ستنتهي قريباً مع موسكو، حتى لو استغرق الأمر وقتاً أطول لتطوير مقاربة شاملة إزاء روسيا تعالج تدخّلها في السياسة الأميركية، واستخدامها للقوة في الشرق الأوسط وأوروبا، وانتهاكاتها المحلية مثل الهجمات على شخصيات معارضة.
مع الصين، قد يستغرق الأمر وقتاً لصياغة سياسة شاملة تتناول كلّ شيء، بدءاً من التجارة والتكنولوجيا، إلى حقوق الإنسان والاهتمامات الاستراتيجية المتعلّقة ببحر الصين الجنوبي وتايوان.
ومع ذلك، يمكن للإدارة الجديدة أن توضح أنّ هذه السياسة الجديدة ستتم بالتنسيق الوثيق مع الحلفاء في آسيا وأوروبا، ما سيجعلها مدعومة على نطاق أوسع، وبالتالي تزيد احتمالية نجاحها، وأن تبدي استعدادها لإجراء حوار استراتيجي مع بكين، من أجل تحديد مجالات التعاون المحتمل والحد من الخلافات.
ستكون هناك حاجة لإجراء مناقشات مع أعضاء الكونغرس من كلا الحزبين في محاولة لإيجاد أرضية مشتركة؛ فالكثير من السياسة الخارجية وضعتها السلطة التنفيذية، ما يجعل من السهل جداً عكسها، وبالتالي تقويض موثوقية الولايات المتحدة.
تضرّرت أميركا والعالم، بفعل الوباء وأربع سنوات من السياسة الخارجية الأميركية المضطربة. وفي حين أنّ الاضطراب ليس جيداً أو سيئاً بطبيعته، إلّا أنّه في ظلّ إدارة ترامب أضرّ بشدة بسمعة الولايات المتحدة وبمجموعة قيّمة من العلاقات والمؤسّسات التي تمّ بناؤها بشق الأنفس على مدار ثلاثة أرباع القرن.
العالم بحاجة ماسّة إلى الإصلاح، إلّا أنّ تلك عملية تستغرق وقتاً، وتتفاوت نسب نجاحها. لذلك، ينبغي تكريس الفترة الأولى من السياسة الخارجية لإدارة بايدن لإصلاح ما فسد، حتّى تُتاح فرصة البناء لاحقاً. فمع حلول يوم التنصيب، من المحتمل أن يكون الوباء قد أودى بحياة 300 ألف أميركي، وبلغت نسبة البطالة ما بين 6% إلى 7%، في وقتٍ يبدو فيه أنّ ملايين الأميركيين عاجزون عن سداد أقساط الإيجار أو الرهن العقاري.
التحديات الداخلية التي تواجهها أميركا المنقسمة، تفوق قدرتها. ما يزيد على 70 مليون أميركي، صوّتوا لمصلحة دونالد ترامب. معظم هؤلاء سيصدّقون رواية الرئيس القائلة إنّ الانتخابات سُرقت منه. سينقسم المجتمع الأميركي حول القضايا الاجتماعية، والحزبان حول القضايا السياسية. وعلى رغم أن التحديات المحلّية ستستنزف وقت بايدن وموارده، إلّا أنّ التحديات الدولية لن تسمح له بلملمة شتات إدارته.
يعزى ذلك جزئياً إلى سياسات ترامب التي أبلت بلاءً حسناً في بعض المجالات مثل: محاسبة الصين على ممارساتها التجارية، وتزويد أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة، وإبرام اتفاق جديد تجاري مع كندا والمكسيك، ولعب دور الوسيط في التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية. إلّا أنّها أخطأت في: تقويض التحالفات التي كانت الحجر الأساس للاستقرار الدولي، الانسحاب من الاتفاقات والمؤسسات الدولية، التقرّب من القادة الاستبداديين في الصين وكوريا الشمالية وروسيا وتركيا، ناهيك عن انتهاكات ترامب المتكرّرة للأعراف والسياسات الديموقراطية، مثل فصل الأطفال المهاجرين عن ذويهم عن الحدود الأميركية ــــ المكسيكية.
لكن إلقاء اللوم على سلفه في معظم التحديات الدولية التي تنتظر بايدن، سيكون بمثابة قراءة خاطئة للتاريخ. فقد لعب الكثيرون دورهم قبل فترة طويلة من ترامب، وسيستمرّون لفترة طويلة بعد خروجه من المكتب البيضاوي: الصين الصاعدة والأكثر حزماً، روسيا المستعدة لاستخدام القوة العسكرية والقدرات السيبرانية لتحقيق أهدافها، كوريا الشمالية ذات القدرات النووية والصواريخ الباليستية المتزايدة، إيران الملتزمة بتنفيذ استراتيجية إمبريالية في شرق أوسط مضطرب، تغيّر المناخ، الحكومات الضعيفة وغير الفعّالة في معظم العالم النامي، وأزمة اللاجئين. ولن تحلّ المشكلة بمجرد عكس ما فعله أو لم يفعله ترامب.
أولى أولويات الإصلاح هي الصحة العامة. على إدارة بايدن أن تعمل على احتواء الوباء، ويبدو أنّ وصول العلاجات واللقاحات سيساهم في ذلك، فضلاً عن تشجيع السلوكيات المسؤولة كارتداء الكمامات. احتواء الوباء أمر ضروري لإنعاش الاقتصاد، ولاستعادة سمعة الولايات المتحدة من حيث الكفاءة، ولإعطاء الإدارة الجديدة الزخم لمعالجة المشاكل الأخرى على الصعيدين المحلّي والدولي.
تبدأ الخطوة الأولى في إعادة الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية ومساعدتها على مواجهة الجائحة الحالية. كذلك، يجب أن تشارك أميركا في الجهود الدولية لتطوير وتصنيع وتمويل وتوزيع اللقاحات، بما يضمن استفادتها من اللقاحات التي ستكتشف في دول أخرى، ما سيساهم في استعادة مكانتها في العالم، فضلاً عن تسريع الانتعاش الاقتصادي العالمي.
ثاني أولويات الإصلاح، هي التحالفات، إذ تعدّ جوهر السياسة الخارجية الأميركية وتوفّر الموارد لمواجهة التهديدات الأمنية المحلية والتحديات العالمية. ومع ذلك، فقد معظم حلفاء الولايات المتحدة الثقة بها، في السنوات الأخيرة، نتيجة عدم استعدادها لمواجهة الخصوم وتحفّظها على الوقوف إلى جانب الأصدقاء.
يمكن أن تتخذ إدارة بايدن خطوات ملموسة تظهر التزامها تجاه الحلفاء، على غرار وقف الانسحاب غير الحكيم للقوات من ألمانيا، وحلّ الخلافات مع كوريا الجنوبية بشأن الدعم المالي للقوات الأميركية المتمركزة هناك، وإعادة النظر في الاتفاقية مع «طالبان» لسحب القوات الأميركية من أفغانستان، هذا إضافة إلى التنسيق مع فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة لصياغة توجّه جديد في التعامل مع إيران. أمّا في آسيا، فيمكن لإدارة بايدن أن تبدأ في الحال بإجراء مشاورات مع كوريا الجنوبية واليابان بخصوص كوريا الشمالية.
كذلك، عليها أن تؤكّد عودة التعددية من خلال انضمامها مجدداً إلى الاتفاقيات والمؤسّسات الدولية ــــ لأنّ ذلك من مصلحة أميركا. وبالإضافة إلى منظمة الصحة العالمية، فإنّ اتفاق باريس للمناخ الذي يخطّط بايدن للانضمام إليه قريباً، يعدّ مكاناً مناسباً للانطلاق؛ كذلك تمديد اتفاقية «نيو ستارت» التي ستنتهي قريباً مع موسكو، حتى لو استغرق الأمر وقتاً أطول لتطوير مقاربة شاملة إزاء روسيا تعالج تدخّلها في السياسة الأميركية، واستخدامها للقوة في الشرق الأوسط وأوروبا، وانتهاكاتها المحلية مثل الهجمات على شخصيات معارضة.
مع الصين، قد يستغرق الأمر وقتاً لصياغة سياسة شاملة تتناول كلّ شيء، بدءاً من التجارة والتكنولوجيا، إلى حقوق الإنسان والاهتمامات الاستراتيجية المتعلّقة ببحر الصين الجنوبي وتايوان.
ومع ذلك، يمكن للإدارة الجديدة أن توضح أنّ هذه السياسة الجديدة ستتم بالتنسيق الوثيق مع الحلفاء في آسيا وأوروبا، ما سيجعلها مدعومة على نطاق أوسع، وبالتالي تزيد احتمالية نجاحها، وأن تبدي استعدادها لإجراء حوار استراتيجي مع بكين، من أجل تحديد مجالات التعاون المحتمل والحد من الخلافات.
ستكون هناك حاجة لإجراء مناقشات مع أعضاء الكونغرس من كلا الحزبين في محاولة لإيجاد أرضية مشتركة؛ فالكثير من السياسة الخارجية وضعتها السلطة التنفيذية، ما يجعل من السهل جداً عكسها، وبالتالي تقويض موثوقية الولايات المتحدة.
تضرّرت أميركا والعالم، بفعل الوباء وأربع سنوات من السياسة الخارجية الأميركية المضطربة. وفي حين أنّ الاضطراب ليس جيداً أو سيئاً بطبيعته، إلّا أنّه في ظلّ إدارة ترامب أضرّ بشدة بسمعة الولايات المتحدة وبمجموعة قيّمة من العلاقات والمؤسّسات التي تمّ بناؤها بشق الأنفس على مدار ثلاثة أرباع القرن.
(ريتشارد هاس ــــ عن «فورين أفيرز» بتصرّف)
ترجمة: ضحى ياسين