جمال زهران*-البناء
كما توقعنا خلال الأسابيع الماضية.. بالسقوط الحتميّ لدونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، وانتصار ساحق للمرشح الديمقراطي جون بايدن. ويصبح ترامب هو الرئيس الجمهوري الثاني الذي يفشل في الحصول على فترة رئاسيّة ثانية، بعد بوش الأب، وعلى عكس الاعتياد للجمهوريّين على اقتناص الفترة الثانية لمن يشغل المنصب الرئاسي. وقد سجلت هذه الانتخابات وقائع جديدة تستحق الوقوف عندها لدلالتها العميقة حاضراً ومستقبلاً.
وعلى مدار التاريخ الأميركي منذ تأسيس الولايات المتحدة على يد جورج واشنطن في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، أجريت الانتخابات الأميركية بعد وضع الدستور الذي شهد تعديلات عديدة، حتى بلغت (59) انتخاباً للرئاسة. ولم تشهد هذه الانتخابات الـ (59) حتى آخر انتخابات حاليّة (نوفمبر 2020)، سوى أربع منها، قد صاحبتها أحداث غير معتادة، وفيها خرق للقواعد الانتخابية الديمقراطية، واتهامات بالتزوير، وأخطاء في احتساب أعداد الأصوات.. الخ. ولعل أهم هذه الانتخابات التي صاحبتها مثل هذه النوعيّة من الأحداث، انتخابات نوفمبر 1960، حيث كان الجمهوريون هم مثيرو الشغب في مواجهة المرشح الديمقراطي (جون كيندي)، الذي استطاع مواجهة ذلك وحزبه، وحقق انتصاراً كبيراً على المرشح الجمهوري المنافس. ثم تكررت الحالة الثانية في عام 2000، بين بوش الابن (مرشحاً جمهورياً)، في مواجهة آل جور (المرشح الديمقراطي)، وقد كان الأمر منحصراً في أخطاء بسيطة في احتساب الأصوات، وتم حسمها بسرعة لصالح المرشح الجمهوريّ (بوش) الذي نجح في مواجهة خصمه الديمقراطيّ.
أي أنّ الانتخابات الأميركية على مدار تاريخها أكثر من (200) سنة، لم تشهد أحداثاً للتشكيك فيها سوى (4) مرات، اثنتان منها خلال القرن التاسع عشر، واثنتان أخريان في القرن العشرين (1960 – 2000). لنصل إلى التشكيك الجديد في القرن الحادي والعشرين، ويثيرها المرشح الجمهوري (ترامب) في مواجهة خصمه الديمقراطي (بايدن)، لتصبح الواقعة الخامسة في التاريخ الأميركي، ومن الواضح أنها واقعة لن تمرّ بسهولة، وستترك آثاراً عميقة الأثر في المشهد الأميركي وانعكاساته على أوروبا والعالم.
ولقد لوحظ مع بداية الفرز عقب الإدلاء بالصوت في جميع الولايات الأميركية، بروز حالة من التوتر لدى الجمهوريين ومرشحهم الرئيس ترامب للشعور المبكر بالهزيمة، وفقاً لما ظهر في خطابه السياسي الأول، والذي أعقتبه خطب عدة أخرى. حيث أعلن عن تفوقه وحصوله على الغالبية وأنه ناجح ودعا أنصاره للاستعداد للاحتفال بالنصر على منافسه بايدن وعلى الديمقراطيين. ولكن لوحظ في الوقت نفسه أن وجهه متجهم، وواضحة عليه آثار الهزيمة التي يرفضها، إلى جانب التهديد باللجوء إلى المحكمة العليا (الدستورية)، فضلاً عن التهديد بالإشارة إلى احتمالات وقوع أحداث عنف بالبلاد حال عدم نجاحه واستمراره رئيساً للولايات المتحدة لدورة ثانية (4 سنوات)! بينما ظهر بايدن في خطاباته المتعددة أنه هادئ، ويتسم بالثقة والحسم في نجاحه، وأنه لا يعلن عن انتصاره بل إن الشعب هو الذي يعلن ذلك متمسكًاً بالقيم الديمقراطية في مواجهة خصمه (ترامب)، الذي لا يتمسّك بها، بل ويشكك فيها، ويشكك في كلّ شيء (قياسات الرأي العام – التصويت عن طريق البريد – الإعلام بمختلف وسائله) فضلاً عن التهديد بعدم الخروج من البيت الأبيض، واللجوء للمحكمة العليا الدستورية إلخ…
وخلاصة المشهد أنّ نجاح بايدن، وسقوط ترامب، أصبح حقيقة واضحة، وحسبما صرّح بايدن في آخر خطبه مساء الجمعة 6 تشرين الثاني/ نوفمبر، أنه اقترب من النجاح، وأنه سيحرز أكثر من (300) مقعد في المجمّع الانتخابي، وهي نتيجة غير مسبوقة، فضلاً عن ذلك التصويت الشعبي الذي تجاوز (75) مليون صوت وسط إقبال شعبي تجاوز الـ (150) مليون مواطن أميركي.
ومن ثم فإن الإعلان الرسمي لنتيجة الانتخابات قد يستغرق بعض الوقت، وفقاً للمتابعة حتى كتابة المقال، ولكن الشواهد والنتائج المعلنة في كلّ ولاية، تؤكد أن بايدن هو الرئيس القادم لأميركا لـ (4) سنوات مقبلة، وأن ترامب قد انتهى سياسياً وفي طريقه مع أنصاره وظاهرته كسياسي «مراهق»، إلى مزبلة التاريخ. وأن الحديث عن المستقبل ما بعد ترامب وسقوطه، وما بعد مجيء بايدن، شيء مهم للغاية، من زاوية ذلك الثقل الدولي لأميركا وانعكاسات هذا التغير في منصب الرئيس، على العالم وأقاليمه المختلفة، وفي المقدّمة المنطقة العربية، والقضية الفلسطينية، والأزمات العربية (اليمن – سورية – العراق – لبنان – ليبيا – منطقة الخليج)، وكذلك الشرق الأوسط والأزمات مع إيران وتركيا وأثيوبيا. وهو الأمر الذي يستحق نقاشاً مستفيضاً ربما يكون جدول أعمال مقالاتي المقبل. ولكن ختاماً أودّ القول إن التطوّر الحادث في علم السياسة في جانب الدراسات المستقبلية قد حقق مراده من خلال التنبؤ للمرة الثانية على مدار (4) سنوات:
الأولى: حين توقعنا نجاح ترامب عام 2016م. قبل إجراء الانتخابات بشهر كامل تقريباً، على عكس الكتابات السائدة قبل ذلك.
والثانية: حين توقعنا سقوط ترامب ونجاح بايدن عام 2020، قبل إجراء الانتخابات بشهرين، كتبت خلالها نحو (10) مقالات أغلبها على صفحات «البناء».
وقد كان البعض يتحفظ على التوقع، ويقول إنّ ذلك صعباً، ولكن بالأدوات العلمية في علم السياسة، صدقت توقعاتنا لنؤكد أنه بالعلم وبالديمقراطية يمكن أن تنهض مجتمعاتنا العربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.