وقوع مؤسسة “كهرباء لبنان” “فريسة” لوزير الطاقة، على مدار العقد الأخير تحديداً، أوقعها في الخطيئة. فالمؤسسة التي تتمتع بهامش واسع من الحرية الإدارية وانعدام الرقابة المسبقة على الاموال المصروفة كي تكون تحركاتها فعالة وسريعة، سمح لها، ومن خلفها لوزراء الطاقة، بالقيام بتجاوزات أدت إلى هدر الاموال العامة. الهدر بلغ بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين “32 مليار دولار، أكثريته لتمويل شراء الفيول بقيمة تصل إلى 28 ملياراً. والباقي على تلزيمات وعقود ومشاريع”.
الفوترة مع مقدمي الخدمات تتيح السمسرة
القطبة المخفية في الكهرباء التي سهّلت الهدر والفساد، وبالتالي تراكم العجوزات هي استغلال عائدات الشركة المقدرة بنحو 700 مليون دولار سنوياً لابرام عقود وصفقات ظاهرها المنفعة العامة وباطنها قبض سمسرات ورشاوى بملايين الدولارات. “حيث تنصّلت الشركة على مدار السنوات الماضية من دفع حصتها من سعر الفيول المحددة بـ 25 دولاراً للبرميل. وحولت عبء دفع فاتورة الفيول كاملة إلى الدولة اللبنانية. ما أتاح لها التوسع في إبرام العقود مع الشركات الخاصة لتشغيل وصيانة المعامل ومقدمي الخدمات والتوظيف وإدارة الطبابة والاشراف والدراسة وغيرها”، يقول مدير عام الإستثمار السابق في وزارة الطاقة غسّان بيضون. “والأخطر أنها لم تعهد بالمهام لموظفيها الذين يتقاضون كتلة معاشات ضخمة نظراً لعددهم الكبير، بل أبرمت عقوداً بالتراضي مع شركات خاصة لتقديم المساعدة الإدارية والفنية. واليوم لم يعد باستطاعة الشركة الإلتزام بهذه العقود، ودفع ما يترتب عليها من تكاليف لانها مبرمة بالدولار الأميركي”. وبالتالي فان انهيار المؤسسة يعود بشكل أساسي إلى “تدخل وزير الوصاية المبني على ضعف مجلس الإدارة، المرتهن له والاعتماد المفرط على القطاع الخاص وتحميل الدولة كامل سعر الفيول”، يعتبر بيضون.
الكهرباء تتنازل عن دورها
ليس بعيداً عن هذا المنطق يقول المهندس محمد بصبوص ان “سيطرة وزير الطاقة على مجلس إدارة شركة الكهرباء تاريخياً، وتجاوز القوانين بعدم تعيين مدير عام مع تجديد أعضاء مجلس الإدارة مؤخراً جعل من هذا المرفق المهم بمثابة الباحة الخلفية لأعمال الوزراء الخاصة”. حيث جرى برأيه “ملء 50 في المئة من الشواغر في المؤسسة بناءً على المحسوبيات وبطرق غير قانونية. ونُقل العشرات من كهرباء قاديشا إلى المؤسسة بطرق مخالفة للقانون. واستمر عمل المدراء العشرة الأساسيين في الشركة بالتكليف. وتم وضع اليد على كل مفاصل المؤسسة لكي تصبح مروّضة وتابعة بشكل كامل لوزارة الوصاية، من دون العودة إلى مؤسسة كهرباء لبنان إلا من خلال التواقيع الشكلية”.
تلزيم محطات الطاقة الهوائية في عكار يعتبر واحداً من عشرات الأمثلة الفاقعة عن سيطرة وزارة الطاقة على مؤسسة الكهرباء، وتجريدها من صلاحياتها الأساسية في التلزيمات والمشاريع. فهذا المشروع الحيوي والذي يعتبر من أولويات الخطة التي أعدتها شركة كهرباء فرنسا بتكليف من البنك الدولي، جرى اعداده ووضع مناقصته من قبل المركز اللبناني لحفظ الطاقة الموجود في الوزارة. وعلى الرغم من عدم امتلاك “المركز” أي بنية قانونية تخوله المضي باعداد المشاريع وتلزيمها، فقد أخذ مكان شركة الكهرباء. وبحسب بصبوص فانه “من كان يجب ان يضطلع بهذا المشروع فعلياً هو الهيئة الناظمة للقطاع مع المجلس الأعلى للشراكة بين القطاعين العام والخاص، وذلك بناء على القانون 462. ولكن في ظل رفض تشكيل هذه الهيئة من قبل الفريق المسيطر على وزارة الطاقة، فان المشروع كان يجب ان ينفذ من قبل شركة الكهرباء وليس المركز الذي هو عبارة عن جمعية”.
“حفظ الطاقة” للوزارة
الخطير ان طريقة إدارة ملفات الكهرباء لن تتغير. فعلى الرغم من الأزمة الخانقة ووقوعنا ضحية انقطاع الكهرباء بشكل نهائي بسبب “استحالة دخول القطاع الخاص للاستثمار في الكهرباء من جهة وعجز الشركة عن بيع الكهرباء بسعر صرف الدولار الحقيقي” كما يقول بيضون، فان “الوزير المقترح لوزارة الطاقة ما هو إلا رئيس المركز اللبناني لحفظ الطاقة بيار خوري، الذي يمثل النهج السابق نفسه والشريك في سياسات الوزارة منذ سنوات طويلة” بحسب بصبوص.
الرقابة المسبقة لا تنفع
على خلاف كل الآراء التي تقول ان سبب الفوضى والتجاوزات في كهرباء لبنان هو عدم خضوع المؤسسة لآلية الرقابة المسبقة على مشاريعها وصرف أموالها، يرى بيضون أنه من غير الجائز تقييد المؤسسة بالرقابة المسبقة. ولا نفع منها حتى لو كانت خاضعة لها. فطبيعة عمل المؤسسة الاستثمارية وحاجتها لتلبية المتطلبات بسرعة ومن دون قيود تأخير تجعلان من الرقابة المسبقة عائقاً كبيراً”. وبرأيه فان “الرقابة المسبقة لا تنفع. والدليل هو مراقبة ديوان المحاسبة المسبقة على كل الادارات التي يعتريها الكثير من شبهات الفساد”. وبالتالي فان الحل هو بوجود مجلس إدارة كفوء ومستقل ويدافع عن استقلالية المؤسسة ومصالحها. ويكون متحرراً من سلطة وزير الوصاية.
إذا كان “المال السائب يعلم الناس الحرام”، فان ضعف إدارة الكهرباء، أو بالأحرى تماشي مصالح مدرائها مع مصالح وزارة الطاقة جعل من الكهرباء مغارة للهدر والفساد. وهو ما رتب على الوزير جبران باسيل، الذي التزمها بشكل مباشر منذ العام 2009 ولغاية العام 2014، وبشكل غير مباشر منذ العام 2014 ولغاية اليوم، عقوبات “ماغنيتسكي”. والتي هي لا تتعلق بالتحالفات السياسية ولا بتبييض الأموال أو دعم الإرهاب إنما بالفساد.