علي الأمين-نداء الوطن
وكأنّ جبران باسيل و”صحبه” كانوا يتسمّرون على جسر العقوبات الأميركية، يتحرّقون شوقاً لصدورها بحقّه، كي يجدّدوا بيعة “حزب الله” مواقف “عنترية” ومزايدات لا طائل منها، معطوفة على إيحاءات أطلقها باسيل أمس ليدغدغ المشاعر الشيعية الحسينية ـ “فرع حزب الله” (الخروج لا أشراً ولا بطراً) وأصبح أكثر عزّة وحرية بعد العقوبات، لأنّه لم يقبل بالتخلّي عن “حزب الله”، والمسيحية (من منكم بلا خطيئة).. والأميركية (بلاد الفرص الجديدة).
العقاب الأميركي بحقّ باسيل كواجهة للإقتصاص من عهد عمّه الرئيس ميشال عون، الذي رماه في أحضان “حزب الله” شرّ رمية، وغرقوا جميعاً في فساد سياسي ومالي مكشوف غير مسبوق، يشي بأنّ هناك “رؤوساً قد أينعت وحان قِطافها”، وأنّ السيف بدأ يُدرك طريقه إليهم و”هم يتحسّسون رؤوسهم” بعد “التحمية” بأخرى من الدرجة الثانية. ولكن، من أسف ومن غير شماتة، يتصرّف باسيل بوصفه الصهر الخارق الحارق المتفجّر، واللبناني المُتحذلق الذي “كيفما رميته يظلّ واقفاً”، وأنّ ما لم يكسبه بقوة الآخرين سيحظى به بضعفه واستضعافه (نظرية قوّة لبنان في ضعفه)، ويستثير “حسد” السياسيين ليردّدوا في قرارة أنفسهم وربّما علناً “يا ليتنا كنّا معكم” ويأتي جوابه “العقبى لكم”.. ويأبوا جميعاً بما يشبه “تروما” أوهام وأضغاث أحلام وأمنيات!
فلم يكن الوزير السابق باسيل أوّل عنقود العقوبات الأميركية على مسؤولين سابقين وحاليين في الدولة اللبنانية، سبقه الى ذلك الوزيران السابقان علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، وسيليه آخرون في الأسابيع والأشهر المقبلة.
بين الفساد و”حزب الله” تتركّز العقوبات الأميركية، والخزانة الأميركية تستند الى قوانين أقرّها الكونغرس تجرّم الفساد في لبنان والتعاون مع “حزب الله” بوصفه منظّمة ارهابية في القانون الأميركي. وهذه القوانين مرشّحة بطبيعة الحال لأن تشكّل عنصر ضغط واستمرارية للسياسة الأميركية تجاه لبنان، مع الإدارة الأميركية، سواء تعاملت الإدارة الجديدة برئاسة الرئيس المنتخب جو بايدن بانفتاح مع ايران أو بمزيد من التشدّد، فهي ستبقى أدوات قوة في سياق أي ترتيب اقليمي أو محلّي في لبنان.
تكتسب العقوبات الأميركية أهميتها وقوّتها، ليس من الجهة التي تصدر عنها فحسب، بل من تعنّت السلطة السياسية في لبنان تجاه أي محاولة لإعادة الإعتبار للإصلاح وتغيير السلوك في مقاربة الملفّات المالية والإقتصادية، في ظلّ انهيار غير مسبوق نتيجة الفساد السياسي ونظام المحاصصة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يجري توجيه رسالة واضحة من قبل الأميركيين بأنّ الرهان على ايران وسياستها في لبنان لن يكون لصالح من وضع أوراقه في ملفّ المشروع الإيراني.
على هذا الإيقاع تجري معاقبة جبران باسيل، بالطبع الاخير ليس متفرّداً في طبيعة التهم الموجّهة اليه، لكنّه بالتأكيد الأكثر انخراطاً مع “حزب الله” والتزاماً بموجبات تعزيز نفوذ ايران في لبنان، وهو ما فتح له الباب واسعاً من أجل ترسيخ نفوذه داخل الإدارة اللبنانية ووزارة الطاقة على وجه الخصوص. وفي المعلومات الأميركية، أنّ باسيل كان محاطاً بفريق يدير تقاسم الفساد في وزارة الطاقة وتوابعها، كان ممثّلون في “حزب الله” من اركان الفريق ومعروفين بالأسماء، وتشير المعلومات الى أنّ لدى الاميركيين ملفّات موثّقة عن دور باسيل في تنفيذ أجندة خدمات مشبوهة في وزارتي الطاقة والإتصالات لصالح “حزب الله”، وأخرى في وزارة الخارجية التي يعتقد الأميركيون، بحسب بعض الدبلوماسيين اللبنانيين، أنّ السياسة الخارجية اللبنانية كان باسيل يديرها لترسيخ نفوذه الشخصي من جهة، ولصالح الحزب من جهة ثانية.
أنهت العقوبات الأميركية الى حدّ كبير طموحات باسيل الرئاسية، بعدما قوّضت انتفاضة “17 تشرين” هذا الطموح الباسيلي، وكذلك بعدما تصدّعت العلاقة بين “حزب الله” والجمهور المسيحي وأنهاه انفجار 4 آب في مرفأ بيروت، وانهيا مشروع حلف الأقليات الذي شكّل ركيزة المشروع الإيراني في المشرق العربي وفي القلب لبنان.
يدرك باسيل هذه الحقيقة، كما يعيها الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله، وهي الحقيقة التي تربك خيارات الطرفين، في ظلّ حال من التشتّت وغياب أي رؤية للنهوض بالدولة خارج منهج المحاصصة والاستقواء، وهو منهج بات عاجزاً عن الاستمرار اذا ما كان الهدف وقف الإنهيار أو لجمه.
في المقابل، تعكس العقوبات الأميركية مساراً يدفع باتجاه تغيير جدّي في معادلة لبنانية بات “حزب الله” حصنها الذي يذود عنها، وهي لم تعد نتائجها سياسية فحسب، بل باتت تداعياتها الإقتصادية والمالية هي الأبرز. فلبنان في عهدة الحزب أمام واقع مزيد من العزلة والتدهور، وبقاء معادلة المحاصصة والفساد، يوفّر عنصر قوة خارجية على لبنان ولا سيّما واشنطن. لذا، فإنّ الإدارة الأميركية، إزاء غرق الطبقة الحاكمة في ملفّات الفساد ممن يعتبر قريباً من سياستها أو بعيداً عنها، أمام واقع مناسب لمزيد من تطويع هذه السلطة قبل تداعيها، بحيث بات من الواضح أنّ الطبقة الحاكمة العاجزة عن التجديد، والرافضة لأي تغيير في أسلوب الحكم، باتت مرشّحة بطبيعتها لتقديم التنازلات للخارج، في مقابل حماية سلطة بات من الصعب توقّع بقائها طالما هي عاجزة عن أي تغيير يوقف الإنهيار، ولو من باب التخلّي عن مكاسب غير مشروعة من المال العام.
رئيس “التيار الوطني الحرّ” كشريك في الفساد والإفساد، وكركيزة لـ”حزب الله”، يفتح الباب واسعاً على مزيد من العقوبات التي تثبت جدواها أميركياً، وسط ارتياح داخلي يبرّره التفاف السلطة على كلّ محاولة داخلية للتغيير الإيجابي في منظومة السلطة، أو أسلوبها في الحدّ الأدنى.