الأخبار
فاز ترامب بأصوات تفوق أيّ مرشح رئاسي في التاريخ الأميركي (70 مليوناً)، فيما حصل منافسه بايدن على 74 مليوناً. سيكافح العلماء والمحلّلون والدبلوماسيون الأجانب لسنوات لمعرفة كيف استطاع ترامب، بعد أدائه السيّئ في إدارة أزمة وباء «كورونا» ومواجهة أكثر مرشّح ديموقراطي اعتدالاً وأقلّهم استقطاباً، الحصول على هذا القدر الهائل من التصويت الشعبي، فيما لم يُثنِه عن تحقيق الفوز سوى فارق ضئيل في أصوات المجمّع الانتخابي.
أداء ترامب في خلال الحملة الانتخابية أضرّ بالديموقراطية الأميركية، ولا سيّما محاولاته قمع الناخبين ومزاعمه في شأن تزوير الاقتراع عبر البريد. على رغم أنه كان متوقّعاً، غَرق الرئيس أكثر في ليلة الانتخابات، حين كرّر ما دأب على ترداده: «الاحتيال الكبير على الشعب الأميركي». ادّعى فوزه في ولايات كانت لا تزال تعدّ أصوات ناخبيها (من ضمنها ميشيغن التي خسرها). كما أكّد بشكل قاطع: «فزنا في هذه الانتخابات»، وتعهّد بالطعن في النتيجة أمام المحكمة العليا الأميركية. مثل هذه التصريحات – أدانتها المعلّقة في قناة «فوكس نيوز»، دانا بيرينو، ووصفتها بأنها «غير مسؤولة»، وانتقدها أيضاً حليف ترامب منذ فترة طويلة، حاكم نيوجيرسي السابق، كريس كريستي -، تثير أجواءً من انعدام الثقة في العملية الانتخابية، كما تجازف في إذكاء العنف.
كشفت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات عن نسبٍ متزايدة من الديموقراطيين والجمهوريين ممَّن يعتقدون بأن هناك «تبريراً ما» لاستخدام العنف في سبيل إبراز قضيّتهم، أو الاحتجاج على الهزيمة التي تلقّوها في الانتخابات. يَعتقد ما بين 15% إلى 20% مِن الناخبين الليبراليين والمحافظين المتشدّدين بأنّ هناك «قدراً كبيراً» من التبرير للعنف. وعليه، يلعب ترامب بالنار في سعيه إلى نزع الشرعية عن التصويت.
مع ذلك، لن يدمل انتصار بايدن الجروح العميقة التي عانت منها الديموقراطية الأميركية في السنوات الأخيرة. ففي نظام الحزبَين، يتطلّب الأمر منهما الحدّ من الاستقطاب السياسي وإصلاح المعايير الديموقراطية. إلّا أن الحزب الجمهوري فَقَد تدريجياً هذه المعايير، في ظلّ تزايد تكتيكات ترامب المتطرّفة للتلاعب بالقوانين لمصلحته، وقمع أصوات الأقليات العرقية، وتعليب المحاكم.
نظراً إلى أن أداء الجمهوريين كان أفضل من المتوقع (الاحتفاظ مبدئياً بمجلس الشيوخ والحصول على مقاعد إضافية في مجلس النواب)، فمِن المرجّح أن يظلّ الحزب واقعاً تحت تأثير شعبوية ترامب غير الليبرالية لفترة من الزمن. من الصعب إجراء مقارنات مع انحدار ديموقراطيات أخرى، لأنه لا توجد ديموقراطية ليبرالية ثرية وناضجة عانت من انهيار مؤسّساتي مماثل. لكن المؤشّرات الواسعة للانحلال السياسي تبدو مألوفة – ومقلقة – بالنسبة إلى الباحثين في مجال الديموقراطية: الاستقطاب المتزايد، وعدم الثقة، والتعصُّب بين مؤيّدي الأحزاب المعارضة الرئيسة، والميل المتزايد إلى النظر في الارتباطات الحزبية كنوعٍ من الهوية القبليّة، وتداخل الانتماءات الحزبية مع الهويات العرقية أو الإثنية أو الدينية، وعدم القدرة على صياغة تسويات سياسية بسبب الانقسامات الحزبية.
يعرف الباحثون في الديموقراطية إلى أين قادت هذه الاتجاهات في الماضي، إلى انهيارات ديموقراطيات في أوروبا ما بين الحربَين العالميتين، وفي أميركا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية. بالطبع، ليست الولايات المتحدة وحدها التي تعاني من انحدار الديموقراطية، فهناك ديموقراطيات قديمة مثل الهند وإسرائيل تعاني العلل ذاتها.
تفاقمت المشكلة بسبب الرياح الخبيثة التي هبّت على الديموقراطية في كل مكان في العالم في الآونة الأخيرة: التأثير الضارّ لوسائل التواصل الاجتماعي التي تعطي قيمة للغضب ومشاركة العواطف، وبالتالي لديها ميل طبيعي للتضليل؛ الاضطرابات التكنولوجية والاقتصادية والبيئية المتعددة التي تهدّد إحساس الناس بالذات والأمن في ما أطلق عليه الصحافي توماس فريدمان «عصر التسارع»؛ صعود الصين وعودة روسيا إلى الظهور كقوّة استبدادية ترى في إضعاف الديموقراطية وزعزعتها ضرورة وجودية؛ وسعي دولة كانت في العقود السابقة المدافع الرئيس عن الديموقراطيات إلى التنصّل من مسؤوليتها العالمية، هي الولايات المتحدة.
في الوقت الراهن، تشهد الولايات المتحدة أزمتها مع تآكل الغشاء النحيف الذي يحمي النخاع الشوكي لديموقراطيتها – أي التسامح المتبادل وضبط النفس، والالتزام الراسخ بقواعد اللعبة الديموقراطية. سواء حاول ترامب المهزوم أم لم يحاول قلب نتائج الهيئة الانتخابية في المحاكم أو من طريق الكونغرس، فمع حلول شهر كانون الثاني/ يناير، ستظلّ الديموقراطية الأميركية في أزمة خطيرة، بينما الشعب الأميركي وحده هو القادر على حلّها.
(لاري دايموند – عن»فورين أفيرز» بتصرّف)
ترجمة: ضحى ياسين