هناك ترمبية بعد ترمب وهي مرشحة لإحداث تغيير في الحزب الجمهوري (أ ب)
“يجب أن نبرهن للعالم أن الولايات المتحدة الأميركية مستعدة للقيادة ثانيةً، ليس بنموذج قوتنا فحسب، بل بقوة نموذجنا أيضاً”، هذا ما كتبه جو بايدن في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز”، وجاء فيه “التحديات أمام أميركا تعاظمت بمقدار ما تسارع تقدم السلطوية والقومية واللا ليبريالية التي ضربت قدرتنا على مواجهتها جماعياً”. والامتحان المباشر أمامه هو استعادة التحالفات والعودة إلى تطمين الحلفاء في “الناتو”، واليابان، وكوريا الجنوبية، بأن أميركا شريك. فما فعله دونالد ترمب هو الإيحاء بأن أميركا “بندقية للإيجار” تحت شعار: نحميك إذا دفعت.
ويقول ويليام بيرنز، نائب وزير الخارجية سابقاً، في مذكراته تحت عنوان “القناة الخلفية”، إن ترمب “دخل البيت الأبيض باقتناع متحرر من التاريخ، هو أن أميركا رهينة النظام الذي صنعته”، ورده كان ممارسة “دبلوماسية همجية تركت أصدقاءنا مرتبكين، وخصومنا متجرئين، وأسَّس النظام العالمي الذي بنيناه وحافظنا عليه لسبعة عقود هشَّة”.
ولا أحد يعرف إلى أي حد يستطيع بايدن تغيير ذلك، في ظل قول منسوب إلى أكثر من رئيس، خلاصته أن السياسة الخارجية لأميركا تشبه حاملة الطائرات التي لا يمكن تغيير اتجاهها إلا ببطء شديد، لكن التحدي الأكبر هو في السياسة الداخلية، حيث حافظ الجمهوريون على الأكثرية في مجلس الشيوخ. وهذه حكمة شعبية تقليدية من أجل استمرار التوازن بين السلطات، فلا تتسلط مؤسسة على البقية؛ ذلك أن ترمب ليس ظاهرة عابرة، فهو نتاج متغيرات في المجتمع الأميركي بمقدار ما أسهم في توسيع التغيير، وهو لعب على الانقسام السياسي و”القوة البيضاء” الخائفة من طغيان عدد الملونين وفقدان الوظائف بسبب جشع الشركات الكبيرة التي صارت تنتج بضائعها في البلدان الفقيرة، مثل بنغلاديش، وسريلانكا، وإندونيسيا، لأن أجر العامل رخيص، ثم صار الانقسام رصيده الكبير، والانطباع السائد أن من الصعب العودة إلى الوحدة الوطنية والسياسات التي كان يتفق عليها الحزبان الجمهوري والديمقراطي في الماضي الذهبي.
ففي أميركا، كما يقول يوفال ليفين مدير الدراسات الاجتماعية والثقافية والدستورية في مؤسسة “أميركان إنتربرايز”: “أزمة اجتماعية، ومشاكل أكبر من الخلاف السياسي، ولا يستطيع رئيس حلها”. وأول ما فعله ترمب هو السخرية من النخبة والمؤسسات والصحف الكبرى التي لم تهادنه، ولا رأت فيه سوى “غريب” مُعادٍ لجوهر أميركا التي يقال إنها “فكرة”. كما يقول إن فرنسا “بلد”، وبريطانيا “شعب”، لا بل إنه وعد بإقالة الدكتور فاوتشي الذي أصر على قول الحقائق للناس عن كورونا في مواجهة “أكاذيب” ترمب، والتخفيف من خطورة “الفيروس الصيني” من أجل الحفاظ على الاقتصاد، خوفاً من الفشل في الانتخابات. وليس ما ظهر أخيراً في الشارع من ميليشيات مسلحة تنتمي إلى اليمين المتطرف، وعددها نحو 300 سوى تحرك سيستمر احتجاجاً على أمور كثيرة غير الانتخابات.
وبكلام آخر، هناك ترمبية بعد ترمب، وهي مرشحة لإحداث تغيير في الحزب الجمهوري، أو تأسيس حزب آخر، أو جعل “حزب الشاي” داخل الحزب الجمهوري الذي يمثله مايك بنس تياراً أوسع وأكثر يمينية وعنصرية، فضلاً عن أن الرؤساء الذين سبقوا ترمب اعتبروا أن التحالفات والمعاهدات والمنظمات الدولية قوة لأميركا. أما ترمب، فإنه انسحب من شراكة عبر الباسفيك، واتفاق باريس للاحتباس الحراري، والاتفاق النووي الإيراني، واتفاقات الحد من التسلح مع روسيا، واليونسكو، ومجلس حقوق الإنسان، ومنظمة الصحة العالمية، ومعاهدة السماوات المفتوحة.
وفي التعليق على ذلك، فإن ريتشارد هاس، المسؤول السابق في الخارجية ورئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، أعاد التذكير بعنوان مذكرات دين أتشسون “حاضر عند الخلق”، ليقول إن كتاب إدارة ترمب عنوانه “حاضر عند التمزيق”، وإذا فاز بولاية ثانية، فإن العنوان هو “حاضر عند الخراب”.
والهوس بالمؤامرات والخرافات والاتهامات المضحكة قديم؛ ففي كتاب “لينكولن على الشفير: 13 يوماً إلى واشنطن”، يقول المؤلف البروفسور في جامعة نيويورك، تيد ويدمر، إن خصوم لينكولن الجمهوري، وهو من أعظم رؤساء أميركا، اتهموه بأنه “اشتراكي”، وقالوا للعبيد عن الرئيس الذي حررهم بعد حرب الاتحاد إنه “آكل لحوم البشر”، وإنه سيوزع “الثروة والملكية والزوجات”. أليس مثل هذا ما قيل عن جو بايدن والديمقراطيين؟