تبرهن التجربة أن اسرائيل لا تعرف إلا ثلاثة أمور بالتعامل مع العرب: أولاً، لا إحترام لأي اتفاقية محلية أو دولية لسبب واحد فقط، وهو أن العرب بنظرها لا يستحقون الاحترام؛ ثانياً، تريد اسرائيل من العرب أن تكون هي المركز والبلدان العربية أطراف، أي عبيد مستتبعين؛ ثالثاً، حالة الحرب الدائمة مع العرب الذين لا يمكن التفاهم معهم إلا بالحديد والنار. الايديولوجيا تنبع من هنا تحديداً: عنصرية كاملة تجاه العرب تؤدي باسرائيل الى استخدام الأبارتايد. فالأمة العربية، بنظر اسرائيل، لا تستأهل أكثر من أن تكون مجالاً حيوياً لاسرائيل؛ عمالاً وخدماً ووارثي حضارة لا يستحقونها، الى حد اتهام الحضارة بأنها لم تكن عربية في أيام ازدهارها. لا عجب أن ترى كتباً صادرة عن مؤلفين صهيونيين حول العالم يعتبرون الفتوحات ليست صنيعة العرب، أو أن الحضارة العربية لم يساهم فيها العرب. وجدت اسرائيل ضالتها: الحلقة المفقودة بين القرد والانسان هي العرب!
العرب بالطبيعة، والطبيعة ثابتة وبيولوجية، لا يستحقون الاحترام؛ يستحقون الكراء فقط. المشكلة مع العرب هي أنهم لا يستحقون أرضهم. هي ليست أرضاً متنازعاً عليها. كان على العرب أن يبقوا فيها ويحتفظوا بها إلى حين يأتي اليهود من سفرهم الأوروبي، فيجدون كل شيء جاهزاً لهم. تماماً كما حين يأتي الأرستقراطي صاحب البيت فيجد الخدم قد رتبوا كل شيء لهم. لكن الخدم (العبيد) قاوموا. فهم يستحقون كل عقوبة، كما هو منصوص في التوراة. المشترك بين الأشكناز والسفارديم ثم الفالاشا تحدده الجينات الثقافية (وأحيانا الجينات البيولوجية)، والفرق بينهم وبين العرب تحدده جينات ثقافية وبيولوجية. هم اليهود شعب الله المختار. كما اختارهم الله للتمايز، اختارهم للتفوق. مرة يستخدمون الله كأمين سجل عقاري، مرة أخرى يستخدمون الله تقنياً في مختبر بيولوجي.
يخلقون التباسات متتالية حول وجودهم. مرة يسمون سكان فلسطين عرباً ومرة يسمونهم فلسطينيين. هم عرب بنظرهم للتقليل من قدرهم. وهم فلسطينيون لتهجيرهم أو عقد اتفاقات معهم. في اتفاق كامب دايفيد ووادي عربة، كان الاتفاقان معقودين مع مصر والأردن. الاتفاقات اللاحقة عقدت مع فلسطينيين. لا فرق بين هذا وذاك. كل اتفاق يعقد مع عرب أو فلسطينيين لا يُحترم. في البداية كانوا يريدون اعتراف العرب بهم، وكذلك الدول الكبرى. الآن لا يريدون إلا التطبيع مع بلدان عربية أخرى. يتطلّب الاعتراف رسم الحدود. الآن يريدون مجرد التطبيع دون رسم حدود. لماذا يرسمون الحدود؟ وهم ينوون قضم الأراضي العربية في الضفة الغربية، وضم أراضي عربية مجاورة لدولتهم؟ مشروعهم طويل المدى. يعرفون أنهم لا يستطيعون تنفيذه دون الاعتماد على دولة عظمى، بالمقاييس الدولية. عام 1948 كان أول المعترفين بهم الاتحاد السوفياتي أيام ستالين. ثم الولايات المتحدة. أول دولة اعتمدوا عليها قبل ذلك كانت بريطانيا، عندما كانوا في طور التحضير. ثم فرنسا في الأربعينيات. يستخدمون الدول الكبرى والمتوسطة والصغرى في سبيل مشروعهم. المساعدات الأميركية المالية والعسكرية (السلاح) تشكل جزءاً كبيراً من موازنتهم السنوية. شعب الله المختار يحق له استخدام كل البشر الآخرين ليشتغلوا عندهم. هذا حق الله. لا نقاش في ما اختاره الله. “عهدهم” مع الله يتيح لهم احتقار كل البشر الآخرين.
كيف يسمح بعض اللبنانيين لأنفسهم القول أن لا خلاف ايديولوجياً مع اسرائيل الصهيونية (وهم حلفاء حزب في لبنان يقول عكس ذلك تماماً). نحن أهل الأرض. هجرتنا من والى لبنان فردية. ليست هجرة شعب يقتلع شعباً آخر من أرضه
ما ارتكب في حقهم من مجازر ومحارق ارتكب ضد غيرهم من البشر في مراحل مختلفة من التاريخ (طرد الاسبان في القرن السادس عشر كما العرب). لكن الجرائم ضدهم مميزة كما هم مميزون. وكأن الجرائم ضد غيرهم مباحة. الجرائم ضدهم هو ما يرتكب ضد الله. وكأن الأمر وارد في كتابهم المقدس. لا بد أن ربهم غير ربنا. هكذا قال أحد الصهاينة المسيحيين، وهو جنرال في الجيش الأميركي.
هذا غيض من فيض. فكيف يسمح بعض اللبنانيين لأنفسهم القول أن لا خلاف ايديولوجياً مع اسرائيل الصهيونية (وهم حلفاء حزب في لبنان يقول عكس ذلك تماماً). نحن أهل الأرض. هجرتنا من والى لبنان فردية. ليست هجرة شعب يقتلع شعباً آخر من أرضه. مشكلتنا، أو احدى مشاكلنا الحالية، كثرة المهجرين من والى لبنان. لا يعتمد وجودنا على المساعدات الأجنبية. ما يرد منها ذو ثمن عال لا يتعلق بالسيادة وحسب، بل بمصادرة مرافق أساسية، أو ما بقي منها بعد عملية النهب الكبرى وإيداع الأموال المهربة في دول الغرب الداعمة لاسرائيل. أم أن المراد تهجير من بقي من اللبنانيين، أو شن حرب إبادة ضدهم؟ فيكون تهجيرهم كلياً أو جزئياً ليحل آخرون مكانهم. وهذا ما يجب أن يخشاه اللبنانيون نظاماً وشعباً.
خلافنا مع اسرائيل يتعلق بترسيم الحدود. ربما كان الأرجح أن لاسرائيل مطامع أخرى في لبنان. لكن الخلاف الأساسي حول فلسطين المحتلة كلها وحقوق أهلها. بعض هذه الحقوق يمس لبنان في الصميم: حق العودة وخطر توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. تخلصت اسرائيل من اللاجئين بتهجيرهم القسري، ولبنان يحمل عبئاً مادياً ومعنوياً. فكرة اغتصاب الأرض، ماضياً وحاضراً، لا يوافق عليها اللبنانيون، مادياً أو معنوياً.
تعيش اسرائيل أحلامها حول ضم أرض عربية إضافية، لذلك فإن حدودها حسب مقررات الأمم المتحدة شيء، وحدودها لاحقاً شيء آخر. تتغيّر الحدود، تتوسّع اسرائيل بالحرب والغلبة، وضم الأراضي بما ينافي الشرعية الدولية، والأخلاق المعترف بها. لبنان ليس كذلك. له حدود مشتركة مع اسرائيل؛ وضعها ملتبس. لا يريد أكثر من ذلك راهناً. اسرائيل وضعها ملتبس، وكثير من اللبنانيين يعتبرون أن حقها بالوجود ملتبس أيضاً، بل أن هذا الحق أعطته لنفسها بالقوة والغلبة بعد اغتصاب أرض فلسطين العربية. لا يظننّ أحد أن اللبنانيين نسوا أو تخلوا عن عروبتهم. بين اسرائيل والصهيونية من جهة والعروبة من جهة أخرى مسافة طويلة. التناقض بين الإثنين ظاهر وواضح. العلاقة بين الشعبين سلسلة حروب. هي علاقة عدائية وإلا لماذا يتحدث الاسرائيليون عن التطبيع؟ الحدود ملتبسة، فهناك اختلاف حول المكان. أما الزمان الاسرائيلي، فهو غير الزمان العربي. هناك فرق بين النصر والهزيمة؛ وفرق كبير بين بلد لديه ظمأ مزمن للأرض، وجشع كبير حيال عيش وثقافة البلاد المحيطة، وبين لبنان واللبنانيين الذين لا يريدون من الغير سوى حدوداً مرسومة ومحددة بدقة.
أما الثقافة في لبنان، بما فيها اللغة، فهي عربية سوى فروق طفيفة (أو كبيرة عند البعض)، على ما في الداخل اللبناني من فروق ثقافية بين المناطق والطوائف.
حلف أقليات موهوم سيكون حتماً وبالاً على الأقليات. هذه الأقليات كانت أكثريات سكانية في مختلف تاريخ الحكم العربي، وما قلّ عددها إلا بعد تدخل أجنبي من دولة كبرى أو غيرها. الحروب الأهلية في المنطقة العربية تجعل من الجميع أقليات. كل جماعة تخوض حرباً أهلية تتحوّل في الحال الى أقلية ولو كانت أكثرية السكان
الحديث عن التقارب الايديولوجي بين بعض اللبنانيين واسرائيل، خاصة في مرحلة التفاوض على ترسيم الحدود البرية والبحرية (نفطياً) يدل بأن ما هو مضمر يمكن أن يكون امتداداً لما تفعله دول عربية بالتطبيع مع اسرائيل. ربما يظن البعض أن هذا المسار في لبنان يمكن أن يقوى على معارضيه بما يشبه “حلف أقليات”. الأمر نفسه يمكن أن ينطبق على المنطقة بأسرها. فيها أكثرية يجب أن تدحر. وُصِمت هذه الأكثرية بالإرهاب التكفيري. لا يأخذ هذا الاعتبار كون الأكثرية فيها فروق أكثر مما بين الأقليات نفسها. الأكثرية عددية وحسب. ليس فيها ايديولوجيا موحدة. هي في الغالب من الطبقات الدنيا التي تعمل، حين وجود وظائف لها، والتي تنتج الفائض الاقتصادي الذي تعيش عليه غالبية الأقليات الحاكمة. هذه الأقليات الحاكمة تشكّل طبقة ومنظومة سياسية من جميع الأديان. المال لا ربّ له ولا مذهب. تعبير تحالف الأقليات لا يعكس واقعاً طبقياً. هو في الأغلب وهم عند أصحابه. هناك نخب دينية من رجال الدين لدى جميع المذاهب، وتلعب دوراً في السياسة. لا مكان لها في السياسة إذا لم تُسعّر المشاعر الطائفية. المستفيد من المصالح الطائفية هم هؤلاء النخب الدينية والمذهبية والسياسية. جرت محاولات تشكيل أحلاف أقليات في الماضي كانت وبالاً على أصحابها. اسرائيل لا تحترمها ولا تدخلها في حسابها. اسرائيل تريد الأكثرية. هي ما يقرر مصير المنطقة لا الأقليات. نتذكر تجربة الرئيس بشير الجميل وأصحابه. اعتبرت اسرائيل بأنها تستطيع استخدامه لدور محدد وحسب. لم يستطع تحمل الدور فكان احتلال عام 1982. ليس للأقليات مناص من السياسة في لبنان. بلد يتشكّل من الأقليات. اذا كان له دور، فهذا يلعبه أبناؤه فحسب. هم يقررون هذا الدور وحدهم. حتى تعبير دور هو مهين بحد ذاته. لم نخلق لدور بل كي نكون أنفسنا. كفانا الدور الطائفي الذي نلعبه، بالأحرى نمارسه. منذ أن نولد تصادرنا الطوائف.
التماثل الايديولوجي يمكن أن ينشأ في ظروف تاريخية متماسكة. هي العكس تماماً في هذه الحالة. غالبية سكان المنطقة يعانون من الاضهاد على أيدي حكامهم، ما يجعلهم بغير حاجة لاضطهاد آخر على أيدي أحلاف. حلف أقليات موهوم سيكون حتماً وبالاً على الأقليات. هذه الأقليات كانت أكثريات سكانية في مختلف تاريخ الحكم العربي، وما قلّ عددها إلا بعد تدخل أجنبي من دولة كبرى أو غيرها. الحروب الأهلية في المنطقة العربية تجعل من الجميع أقليات. كل جماعة تخوض حرباً أهلية تتحوّل في الحال الى أقلية ولو كانت أكثرية السكان.
يقال عن هذه المنطقة أنها فسيفساء من الأقليات. وهذا صحيح لكن ما يجمع هذه المنطقة هو الثقافة الواحدة بتلاوينها الإثنية والدينية المختلفة. ملاذ الجميع ليس في حلف أقليات مزعوم ويستحيل التحقيق. ملاذ الجميع هو الدولة داخل الحدود حيثما كانوا؛ وفي أي بلد وجدوا. تحاول اسرائيل بالتطبيع الدخول الى ثقافة أهل هذه الدول ليس للمساواة بل من أجل ممارسة أبارتايد ثقافية على مستوى أوسع من فلسطين، وأوسع من المجال العربي. مصادرة الثقافة العربية ربما كانت مشروعاً لاسرائيل. مصير الأقليات العربية هو الاندماج في ما بينهم ثقافيا وإن فرقتهم حدود جغرافية. بناء الدولة ضمن الحدود الجغرافية المرسومة لها هو وحده ربما كان الضمان الوحيد لبقاء الثقافة العربية وتطورها. التراث الإسلامي جزء من ثقافة هذه المنطقة، لكن التراث الثقافي للإثنيات الأخرى جزء منها أيضاً. ما يشكل خطراً على هذه التعددية هو الدين السياسي، بجميع أنواعه، إضافة للتدخل الخارجي. اسرائيل قوة خارجية ولو تموضعت في القلب من هذه الأمة. ربما كانت حصان طروادة لقوى كبرى. المختلفون في الداخل لا يريدون ولا يمكن أن يكونوا طروادة. هم أبناء هذه الأرض ولا يعبرون إليها من الخارج. أرضهم في الداخل، ولا حاجة الى الخارج. الطريق الوحيد هو إدراك ذلك. السبيل هو العيش سوية. يكون ذلك بالسياسة. السياسة التي هدفها التطوّر المشترك. المبني على عيش مشترك. من أجل نهوض اقتصادي مشترك، معركة سكان المنطقة هي النهوض الاقتصادي من الأوهام الايديولوجية التي تؤدي حتماً الى عبودية الجميع لما هو خارجي.
لا حاجة للحديث عن التسامح. كل جماعة تحترم الآخرين بمقدار ما تحترم نفسها. التسامح ليس منه. هو ملكة التهذيب لدى الجميع. الدين السياسي فاقد ملكة التهذيب. لا يحترم نفسه. بالتالي لا يحترم الجيران أبناء البلاد.
أديان المنطقة بحاجة الى نقد نفسها من الداخل لا من الخارج. النقد الداخلي خاصة نقد الأديان هو أكثر فائدة خاصة بعد أن اشتدت العصبيات الطائفية وعلى رأسها الإسلام السياسي.