خالد أبو شقرا-نداء الوطن
تشكّل موجودات مصرف لبنان من العملات الاجنبية، أو ما يُعرف بـ احتياطي الدولار أهمية بالغة. فهي لا تمثّل ما تبقى من حقوق المودعين فحسب، بل إنها تعتبر صمام أمان الإقتصاد وآخر معاقل الدفاع عن القدرة الشرائية، التي لم تسقط بعد بهجمات الهندسات المالية.
في الوقت الذي يُبحث فيه بـ”السراج والفتيلة” عن كيفية ترشيد المتبقي من الدولار، من أجل إطالة فترة الدعم لحين بدء الإصلاحات، تَراجع صافي الموجودات بالدولار في مصرف لبنان من تموز إلى أيلول بقيمة 7 مليارات دولار. أي أن التراجع في الفصل الثالث بلغ 2.3 مليار دولار شهرياً. في حين لم يتخطّ الإنخفاض الشهري في الفصلين الأول والثاني من العام الحالي 0.7 مليار دولار، وبمجموعٍ وصل لغاية حزيران إلى 4.3 مليارات. هذا التغير المفاجئ في النسق المتبع منذ بداية العام طرح الكثير من الاسئلة، ودفع بالنائب فؤاد المخزومي إلى تقديم مساءلة لرئاسة الحكومة ووزارة المالية وحاكم مصرف لبنان، حول الإنخفاض الكبير في احتياطي المصرف بالعملات الأجنبية. خصوصاً انه جرى تخفيض سقوف الدعم، والكثير من طلبات الاستيراد ترفض أو تؤخّر، ولم تحدث أي زيادة في الإستهلاك المحلي. فأين ذهبت المليارات؟
تسديد وديعة
لفهم الموضوع يعود مخزومي بالذاكرة إلى ما قبل انتفاضة 17 تشرين الأول، وتحديداً إلى شهر آب من العام 2019 حيث استطاع مصرف “سوسيتيه جنرال” لبنان، جذب وديعة أجنبية بقيمة 1.4 مليار دولار. وقتها كان “الإستقتال” على جذب الودائع بأعلى الفوائد يهدف للإيحاء باستعادة الثقة في الشكل، فيما المضمون كان لتمويل “هرم بونزي” Ponzi scheme، وإعطاء إشارات إيجابية لوكالات التصنيف الدولية. إلا ان “هذه الوديعة لم تكن كما غيرها”، بحسب المخزومي. حيث قُدّم لها الكثير من الضمانات والتطمينات. وأغلب الظن برأيه ان “مصرف لبنان قد دفع هذه الوديعة مع فوائدها ومترتباتها أخيراً، الأمر الذي زاد من تدهور الموجودات بالعملات الاجنبية خلال تموز الفائت وظهر بوضوح في أرقام المركزي. هذه الإستنسابية في التعاطي بين المودعين، التي ما زالت تستفيد من غياب قانون لـ”الكابيتال كونترول” تستوجب الملاحقة والمحاسبة. إذ “كيف يمكن دفع وديعة بمليارات الدولارات من احتياطي “المركزي” لان البنك المعني عاجز عن تمويلها، وحرمان ملايين اللبنانيين من الحصول على دولار واحد من ودائعهم”، يقول المخزومي. ليجيب ان هذه التساؤلات رهن الحكومة والرئيس المكلف وحاكم المصرف المركزي، من دون ان تحمل أي تحدٍ لأحد، بل فقط محاولة لكشف الحقيقة ووضع حد لتجاوزات تحالف السلطة والمصارف التي يدفع ثمنها المواطنون اللبنانيون، الذين يرزحون تحت خط الفقر بنسبة تجاوزت 55 إلى 60 في المئة.
الإنكار مستمر والدولار الطالبي لن يدفع
ما يثير الدهشة والاستغراب هو “اعتصام المعنيين عن هذا الملف عن البوح بأي معلومة أو تفصيل تعتبر من أبسط حقوق المودعين واللبنانيين”، بحسب المخزومي. فخلال إجتماع لجنة المال والموازنة مع ممثلي وزارة المال والمصرف المركزي وجمعية المصارف في الثامن من الشهر الماضي، توجه عدد من النواب بأسئلة للمصرفيين تتعلق بحجم الأموال المنفقة على الدعم لغاية الآن وتاريخ توقف الدعم، إلا إنهم لم يحصلوا على أي جواب. والحجة ان الملف بحاجة إلى المزيد من الدراسات والاحصاءات. عندها توجه المخزومي بسؤال لممثلة المصرف المركزي عن سبب رفضهم إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، فأتى الجواب بأن “المصارف غير قادرة على دفع أي مبلغ بالدولار. حتى ان قانون “الدولار الطالبي” الذي سيوقّعه رئيس الجمهورية – وقعه في 16 تشرين الاول – لن يكون بامكان البنوك تطبيقه”. وأضاف: “ما هي إذاً المبالغ المتبقية بالدولار في المصارف اللبنانية والمصارف المراسلة في الخارج؟ فأتى الجواب من رئيس جمعية المصارف “ما بعرف”.
أسباب تراجع موجودات الدولار في “المركزي”
بالاضافة الى تخصيص جزء كبير من موجودات العملات الأجنبية للدعم، فان الجزء الباقي المدفوع والمقدّر بأكثر من 5 مليارات دولار من أصل تراجع بقيمة 11.2 ملياراً، ذهبت، بحسب صائب الزين المدير التنفيذي السابق في بنوك وصناديق مالية عالمية، على تسديد مستحقات مصرفية وإخراج أموال. فالتدفقات النقدية التي خرجت من النظام المصرفي بعد 17 تشرين الأول كانت برأيه عبارة عن ودائع المصارف العالمية التي جرى وضعها في المصارف اللبنانية، والتي تقدر بحسب تصريحات مصرف لبنان العلنية بـ 2 مليار دولار. هذا بالإضافة إلى دفع التزامات تجارية للمصارف الأجنبية على المصارف اللبنانية. وتسديد التزامات مصرف لبنان لمصارف خارجية. أما القسم المتبقي فهو التحويلات المالية التي أجراها نافذون وسياسيون وغيرهم.
هذه الفوضى التي يصح عليها صفة “الجريمة” بحق الوطن والمواطنين سببها “عدم إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، عند نشوب الازمة في نهاية العام الماضي”، يقول الزين. “ولو جرى وضع مثل هذا القانون، الذي يعتبر من الأولويات عند صندوق النقد الدولي، من بعد 17 تشرين الاول عندما أقفلت البنوك أبوابها لمدة أسبوعين، كنا جنبنا الاقتصاد خروج مليارات الدولارات، وحدّينا من تفاقم الأزمة وانهيار سعر الصرف، والعيش بخوف دائم من انقطاع مواد الدواء والغذاء. والأهم لكنا وفرنا على المودعين اللبنانيين خسارة قيم اكبر من ودائعهم. وأوقفنا عملية تفضيل المصارف الأجنبية على المودعين المحليين الذين شكلوا العمود الفقري لنهضة القطاع خلال السنوات الماضية. حيث انه كلما تراجعت الموجودات كلما أصبحت خسارة المودعين أكبر وأملهم باسترداد اموالهم أقل.
حفلة الإنكار المستمرة ما هي إلا دليل على “استمرار المصارف ومصرف لبنان بسياساتهم القديمة من دون أن يكون هناك رادع، لا من القوانين ولا من الطبقة السياسية المتكافلة والمتضامنة على حماية مصالحها الخاصة”، يعتبر المخزومي. ففي الوقت الذي قررت فيه الدولة التوقف عن سداد ديونها السيادية لحملة السندات بالليرة والدولار، قرر مصرف لبنان منفرداً أن يدفع وديعة لمصرف بقيمة مضاعفة عن كل استحقاقات 2020 من اليوروبوندز. الامر الذي يؤكد ان تخلف الدولة عن الدفع في ظل استمرار الدعم ومن دون وجود قانون لـ”الكابيتال كونترول” هو كضربة السيف في الماء.