الأخبار- نادين شلق
بدأ الأمر خلال خطاب التنصيب في 20 كانون الثاني/ يناير 2020. يومها، نطق الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، بالعبارة التي سترسم أُطر العلاقة مع الحلفاء في عهده، منذراً بقواعد اشتباك لم تكن في الحسبان. «من الآن فصاعداً، رؤية جديدة ستحكم؛ من الآن فصاعداً، ستكون أميركا أولاً، فقط»… قالها قُطب العقارات، «الدخيل» إلى عالم السياسة، لتتفتّح على إثرها آفاق الاحتمالات – على سوداويتها – في رأس كلّ دبلوماسي أوروبي في واشنطن، أو خارجها. بعدها، في 17 آذار/ مارس 2017، تمظهرت الرؤية نفسها خلال اللقاء الذي جمع ترامب بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في البيت الأبيض. كان تجاهله لها أبلغ تعبير عن السياسة التي سيعتمدها تجاه أوروبا في السنوات الأربع اللاحقة. بدا متردّداً في مصافحتها، وقد وصل الأمر بالإعلام إلى وصف اللقاء بـ«القاسي بعض الشيء».
غير أن مقاربة الرئيس الأميركي الجديد للعلاقة مع الحليف الأوروبي كانت، إلى ذلك الوقت، تتقلّب ضمن النطاق النظري أو الشكلي، إلى أن انتقلت إلى الشق العملي، عندما أعلن، في حزيران/ يونيو 2017، انسحاب بلاده من «اتفاقية باريس للمناخ»، «من أجل حماية مواطني الولايات المتحدة»، على حدّ تعبيره. اتفاقٌ وقّعت عليه 195 دولة، وجاء تتويجاً لعقود من المفاوضات الدولية، ما حدا بالرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، إلى وصفه بـ«الثورة الرائعة». ولكن لسوء حظّ هولاند، وغيره، لم يكن الهدف من قرار ترامب تسديد ضربة كبيرة للحلفاء الأوروبيين فقط، بل أيضاً تسجيل نقطة في شباك سلفه، الديموقراطي باراك أوباما، الذي لعب دوراً أساسياً في التوصّل إليه. بناءً عليه، أصاب الرئيس الجمهوري عصفورين بحجر واحد: البدء بالقضاء على إرث أوباما، وتحجيم الحليف الأوروبي.
كان الخروج من «اتفاقية المناخ» إشارة إلى الصدع الأول في العلاقة الأميركية – الأوروبية، الذي ما لبث أن تلاه صدعٌ جديد، بعد عام، عبر إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. «في الواقع، فإنّ هذا اتفاق أحادي الجانب، ومريع، كان يجب عدم التوصّل إليه»، قال حينها، ليبدّد بذلك أحد أكبر الانتصارات الدبلوماسية بالنسبة إلى الأوروبيين، وأحد أهمّ «الإنجازات» التي روّج لها أوباما.
باختصار، خرج ترامب من الاتفاق، واعداً بآخر لم يحصل. وبينما كان يبحث عن انتصارات سريعة، قرّر أن تقتصر تبعات النقلة التالية على العلاقة الثنائية مع أوروبا، فجاء الهدف هذه المرّة «حلف شمال الأطلسي». تعامل مع المنظّمة العسكرية بالازدراء ذاته الذي تعامل به مع «اتفاقية المناخ» أو مع إيران. هو لم يهاجم فقط دول الحلف التي لا تدفع ما يجب عليها للإنفاق على الدفاع، بل انتقد اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي، خلال إحدى المناسبات التي جمعت قادة التحالف، وذهب إلى حدّ وصف برلين بأنها «رهينة لدى موسكو»، قائلاً: «هم يدفعون مليارات الدولارات لروسيا، والآن علينا أن ندافع عنهم ضدّ روسيا». عبارة كانت كفيلة بخلق جوّ مشحون، اضطرّ «الناتو» إلى وضع تدابير لتجنّب تكرار الحادثة مرّة أخرى. منذ ذلك الحين، قُصّرت مدّة كلّ الاجتماعات التي تضمّ الرئيس الأميركي، أو مدّة مداخلته. حتّى إنه جرى تقليل اجتماعات قادة الحلف، خوفاً من إلقاء الضوء على أيّ حدث، قد يُستخدم من قِبَل إدارة ترامب كمنصّة لمهاجمة المنظّمة، أو في سبيل التعامل مع مسائل أخرى. إلّا أن ترامب واصل مقاربته لـ«الانتقام» من الحلفاء الذين لا يدفعون، فعمّق نهجه، في بداية العام الحالي، عندما أعلن أنه سيسحب آلاف الجنود من ألمانيا، من دون إطلاع برلين على الأمر مسبقاً. عُدّ الأمر صفعة للحكومة الألمانية، مع ما أضافه من شعورٍ بالتوجّس ضمن «حلف شمال الأطلسي» بشأن الخطوة التالية.
طيلة السنوات الأربع من ولاية ترامب الأولى – وربما الأخيرة -، لم تتوقّف مقارباته عن اتّخاذ أشكال عدائية مختلفة، وضعت الأوروبيين أمام واقع تجاهلوه طويلاً، وهو أنّهم الطرف الأضعف في المعادلة، وبالتالي عليهم تلقّي الضربات من الحليف الأقوى. فكان أن جاءت هذه الضربات، بعد ذلك، على شكل حربٍ تجارية شنّتها الإدارة الأميركية على أوروبا، وعقوبات على مشروع «نورد ستريم» لنقل الغاز بين ألمانيا وروسيا.
الآن، ينتظر الأوروبيون يوم غدٍ بفارع الصبر. قد لا ينامون على أمل أن يحلّ جو بايدن محلّ ترامب، بل ربّما يتمنّون الاستيقاظ على أمل اكتشاف أنّ السنوات الأربع الماضية كانت مجرّد حلم سيّئ. ولكن لن يكون ذلك أكثر من مجرّد تمنٍّ؛ إذ إن جوهر المشاكل التي واجهتهم مع ترامب موجود أساساً ومتقادم: ألمانيا وغيرها من دول الحلف لا تنفق منذ زمن ما وعدت به على الدفاع، والعديد من الرؤساء الأميركيين اشتكوا منها على مدى الأعوام السابقة، ولكن لم يكن أيّ منهم بمثل عدائية ترامب. أكثر ممّا تقدّم، أسلوب ترامب وعدم شعبيته في أوروبا ربّما يخفيان حقيقة أخرى، وهي أن التوترات العديدة هي نتاج تبايُن بنيوي أطول أجلاً بين المصالح الأميركية والأوروبية.
قد يُنتخب بايدن رئيساً، وقد يعود إلى «اتفاقية المناخ»، كما قد يسعى إلى التوصّل إلى اتفاق نووي جديد، أو إعادة إحياء القديم. ولكن بغضّ النظر عمّا سيحدث، من المحتمل أن تستمرّ التوترات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – بل وتتزايد – أيّاً كان الفائز. يعترف الدبلوماسيون الأوروبيون، سرّاً، بأنّ العلاقات عبر الأطلسي هي في أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة، بما في ذلك خلال حرب العراق عام 2003؛ إذ إن الخلافات التي كانت تدور سابقاً حول السياسات تحوّلت، اليوم، إلى التشكيك في مفهوم الوحدة عبر الأطلسي وقيمتها.
ترامب هو أول رئيس أميركي يقوّض التكامل الأوروبي، وينظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنّه تهديد، ويضع الشروط أساساً للعلاقة مع «حلف شمال الأطلسي». وفي حال أعيد انتخابه، يخاف الأوروبيون من أن تسوء الأمور. فكما ينقل معهد «كارنيغي» عن أحد المسؤولين الأوروبيين: «نخاف من أننا لم نصل إلى الحضيض بعد». الأوروبيون قلقون من المزيد من التعريفات التجارية، ومن انسحاب الولايات المتحدة من «حلف شمال الأطلسي»، والمزيد من العزلة الأميركية، ما يفيد الصين وروسيا. وهذا الأمر لن ينتهي مع خروج ترامب من الحكم. ففي مقابل كلّ ذلك، هم اعتادوا الاختلاف مع الولايات المتحدة على مدى السنوات الثلاث الماضية، بطريقة لم يكن من الممكن تصوّرها في ظلّ الإدارات السابقة. وبالتالي، «لن يعود هذا الجنّي إلى الزجاجة»، وفق «كارنيغي»، إذ حتى لو قام الرئيس بايدن بكلّ ما يريده الاتحاد الأوروبي، يعرف هؤلاء، الآن، أن الرئيس الذي يليه يمكن أن يعود إلى النهج الترامبي، وبالتالي سوف يحتاطون وفقاً لذلك.
غير أن مقاربة الرئيس الأميركي الجديد للعلاقة مع الحليف الأوروبي كانت، إلى ذلك الوقت، تتقلّب ضمن النطاق النظري أو الشكلي، إلى أن انتقلت إلى الشق العملي، عندما أعلن، في حزيران/ يونيو 2017، انسحاب بلاده من «اتفاقية باريس للمناخ»، «من أجل حماية مواطني الولايات المتحدة»، على حدّ تعبيره. اتفاقٌ وقّعت عليه 195 دولة، وجاء تتويجاً لعقود من المفاوضات الدولية، ما حدا بالرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، إلى وصفه بـ«الثورة الرائعة». ولكن لسوء حظّ هولاند، وغيره، لم يكن الهدف من قرار ترامب تسديد ضربة كبيرة للحلفاء الأوروبيين فقط، بل أيضاً تسجيل نقطة في شباك سلفه، الديموقراطي باراك أوباما، الذي لعب دوراً أساسياً في التوصّل إليه. بناءً عليه، أصاب الرئيس الجمهوري عصفورين بحجر واحد: البدء بالقضاء على إرث أوباما، وتحجيم الحليف الأوروبي.
كان الخروج من «اتفاقية المناخ» إشارة إلى الصدع الأول في العلاقة الأميركية – الأوروبية، الذي ما لبث أن تلاه صدعٌ جديد، بعد عام، عبر إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. «في الواقع، فإنّ هذا اتفاق أحادي الجانب، ومريع، كان يجب عدم التوصّل إليه»، قال حينها، ليبدّد بذلك أحد أكبر الانتصارات الدبلوماسية بالنسبة إلى الأوروبيين، وأحد أهمّ «الإنجازات» التي روّج لها أوباما.
باختصار، خرج ترامب من الاتفاق، واعداً بآخر لم يحصل. وبينما كان يبحث عن انتصارات سريعة، قرّر أن تقتصر تبعات النقلة التالية على العلاقة الثنائية مع أوروبا، فجاء الهدف هذه المرّة «حلف شمال الأطلسي». تعامل مع المنظّمة العسكرية بالازدراء ذاته الذي تعامل به مع «اتفاقية المناخ» أو مع إيران. هو لم يهاجم فقط دول الحلف التي لا تدفع ما يجب عليها للإنفاق على الدفاع، بل انتقد اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي، خلال إحدى المناسبات التي جمعت قادة التحالف، وذهب إلى حدّ وصف برلين بأنها «رهينة لدى موسكو»، قائلاً: «هم يدفعون مليارات الدولارات لروسيا، والآن علينا أن ندافع عنهم ضدّ روسيا». عبارة كانت كفيلة بخلق جوّ مشحون، اضطرّ «الناتو» إلى وضع تدابير لتجنّب تكرار الحادثة مرّة أخرى. منذ ذلك الحين، قُصّرت مدّة كلّ الاجتماعات التي تضمّ الرئيس الأميركي، أو مدّة مداخلته. حتّى إنه جرى تقليل اجتماعات قادة الحلف، خوفاً من إلقاء الضوء على أيّ حدث، قد يُستخدم من قِبَل إدارة ترامب كمنصّة لمهاجمة المنظّمة، أو في سبيل التعامل مع مسائل أخرى. إلّا أن ترامب واصل مقاربته لـ«الانتقام» من الحلفاء الذين لا يدفعون، فعمّق نهجه، في بداية العام الحالي، عندما أعلن أنه سيسحب آلاف الجنود من ألمانيا، من دون إطلاع برلين على الأمر مسبقاً. عُدّ الأمر صفعة للحكومة الألمانية، مع ما أضافه من شعورٍ بالتوجّس ضمن «حلف شمال الأطلسي» بشأن الخطوة التالية.
طيلة السنوات الأربع من ولاية ترامب الأولى – وربما الأخيرة -، لم تتوقّف مقارباته عن اتّخاذ أشكال عدائية مختلفة، وضعت الأوروبيين أمام واقع تجاهلوه طويلاً، وهو أنّهم الطرف الأضعف في المعادلة، وبالتالي عليهم تلقّي الضربات من الحليف الأقوى. فكان أن جاءت هذه الضربات، بعد ذلك، على شكل حربٍ تجارية شنّتها الإدارة الأميركية على أوروبا، وعقوبات على مشروع «نورد ستريم» لنقل الغاز بين ألمانيا وروسيا.
الآن، ينتظر الأوروبيون يوم غدٍ بفارع الصبر. قد لا ينامون على أمل أن يحلّ جو بايدن محلّ ترامب، بل ربّما يتمنّون الاستيقاظ على أمل اكتشاف أنّ السنوات الأربع الماضية كانت مجرّد حلم سيّئ. ولكن لن يكون ذلك أكثر من مجرّد تمنٍّ؛ إذ إن جوهر المشاكل التي واجهتهم مع ترامب موجود أساساً ومتقادم: ألمانيا وغيرها من دول الحلف لا تنفق منذ زمن ما وعدت به على الدفاع، والعديد من الرؤساء الأميركيين اشتكوا منها على مدى الأعوام السابقة، ولكن لم يكن أيّ منهم بمثل عدائية ترامب. أكثر ممّا تقدّم، أسلوب ترامب وعدم شعبيته في أوروبا ربّما يخفيان حقيقة أخرى، وهي أن التوترات العديدة هي نتاج تبايُن بنيوي أطول أجلاً بين المصالح الأميركية والأوروبية.
قد يُنتخب بايدن رئيساً، وقد يعود إلى «اتفاقية المناخ»، كما قد يسعى إلى التوصّل إلى اتفاق نووي جديد، أو إعادة إحياء القديم. ولكن بغضّ النظر عمّا سيحدث، من المحتمل أن تستمرّ التوترات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – بل وتتزايد – أيّاً كان الفائز. يعترف الدبلوماسيون الأوروبيون، سرّاً، بأنّ العلاقات عبر الأطلسي هي في أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة، بما في ذلك خلال حرب العراق عام 2003؛ إذ إن الخلافات التي كانت تدور سابقاً حول السياسات تحوّلت، اليوم، إلى التشكيك في مفهوم الوحدة عبر الأطلسي وقيمتها.
ترامب هو أول رئيس أميركي يقوّض التكامل الأوروبي، وينظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنّه تهديد، ويضع الشروط أساساً للعلاقة مع «حلف شمال الأطلسي». وفي حال أعيد انتخابه، يخاف الأوروبيون من أن تسوء الأمور. فكما ينقل معهد «كارنيغي» عن أحد المسؤولين الأوروبيين: «نخاف من أننا لم نصل إلى الحضيض بعد». الأوروبيون قلقون من المزيد من التعريفات التجارية، ومن انسحاب الولايات المتحدة من «حلف شمال الأطلسي»، والمزيد من العزلة الأميركية، ما يفيد الصين وروسيا. وهذا الأمر لن ينتهي مع خروج ترامب من الحكم. ففي مقابل كلّ ذلك، هم اعتادوا الاختلاف مع الولايات المتحدة على مدى السنوات الثلاث الماضية، بطريقة لم يكن من الممكن تصوّرها في ظلّ الإدارات السابقة. وبالتالي، «لن يعود هذا الجنّي إلى الزجاجة»، وفق «كارنيغي»، إذ حتى لو قام الرئيس بايدن بكلّ ما يريده الاتحاد الأوروبي، يعرف هؤلاء، الآن، أن الرئيس الذي يليه يمكن أن يعود إلى النهج الترامبي، وبالتالي سوف يحتاطون وفقاً لذلك.