الأخبار- ملاك حمود
على رغم اشتداد المنافسة الجيوسياسية بين واشنطن وبكين، يرفض كثيرون الركون إلى احتمال وقوع حرب. تفاؤلٌ يبدو متجذّراً بالاستناد إلى بعض النظريات البارزة؛ تشير الأولى إلى أن مستوى الترابط الاقتصادي بين البلدَين يقلّل من خطر نشوب صراع. غير أن التاريخ يقدّم العديد مِن الأمثلة لمواجهة هذه الفرضية. فدول أوروبا لم تكن يوماً أكثر ترابطاً ــــ اقتصادياً وثقافيّاً ــــ ممّا كانت عليه قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، حين كان اقتصادا اثنين من المتحاربين الرئيسين، المملكة المتحدة وألمانيا، مترابطَين بشكل وثيق (يُظهر مسار التنافس البريطاني ــــ الألماني الذي بلغ ذروته في عام 1914، كيف يمكن جذب قوّتين عظميين نحو صراع بدا بعيداً حتى اللحظة التي اندلع فيها). ومع افتراض أن الروابط الاقتصادية الصينية ــــ الأميركية ربّما تقلّل ــــ نظريّاً ــــ مِن مخاطر نشوب حرب بينهما، إلّا أنها بدأت تنهار في السنوات الأخيرة، في ظلّ السياسات الحمائيّة التي اتّبعتها إدارة ترامب، والتي فشلت ــــ للمناسبة ــــ في تحقيق وعد الرئيس بخفض العجز التجاري للولايات المتحدة، فضلاً عن أنها وجّهت ضربة سيطول أمدها للنظام الاقتصادي التعدّدي الذي يشكّل أساس التجارة العالمية. لكن حتى وإن فاز جو بايدن، يُرجّح أن تبقي السياسة التجارية لأميركا على شيء من الحمائية، في موازاة استمرار المواجهة مع الصين.
في النظرية الثانية، تنبع الشكوك إزاء احتمال نشوب الحرب مِن الإيمان بقوّة الردع النووي، لكن لاين يشير إلى أن التطورات التكنولوجية في العقود الأخيرة أضعفت هذا الردع؛ إذ إن الجمع بين الرؤوس الحربية النووية الصغيرة المنخفضة القوّة وأنظمة التوصيل العالية الدقة جعل ما لم يكن ممكناً تصوّره في السابق، ممكناً: حرب نووية «محدودة» لا ينتج منها دمار هائل. في الثالثة، يرى بعض الباحثين أن ما يسمّى بالنظام الدولي الليبرالي سيحافظ على السلام. انطلاقاً من وجهة النظر هذه، توفّر قيادة الولايات المتحدة من خلال المؤسسات الدولية المتعدّدة الأطراف، ونشر «مبادئ التعاون السلمي»، انتظاماً وإمكانية للتنبّؤ بالسلوك الدولي. يتوقّع العالم السياسي، جون إكنبيري، أن هذا النظام يمكن أن يستمرّ لعقود في المستقبل، على رغم صعود الصين والنهاية الحتمية للهيمنة الأميركية. ذلك الافتراض يمثّل إشكالية، وفق لاين الذي يعطي مثالاً عن أن صعود الشعبوية والديموقراطية غير الليبرالية في كلّ من أوروبا والولايات المتحدة يُعتبر بمثابة ردّ فعل ضدّ النظام القائم، والنخب التي تناصره وتستفيد منه.
وفق مقاييس القوّة، تقترب الصين بسرعة مِن الولايات المتحدة. في عام 2014، أعلن «صندوق النقد الدولي» أن بكين تجاوزت واشنطن كأكبر اقتصاد في العالم، عند قياس القوة الشرائية. وبقياس سعر صرف السوق، يبلغ إجمالي الناتج المحلي الصيني الآن ما يقرب من 70% من ناتج أميركا. وفي ظلّ مواصلتها التعافي السريع من الانكماش الاقتصادي الناجم عن وباء «كورونا»، يمكن بكين تجاوز واشنطن باعتبارها الاقتصاد الأول في العالم بكل المقاييس قبل نهاية هذا العقد.
استعادت إدارة ترامب السردية الإيديولوجية عن المواجهة الحتمية بين الأنظمة الديموقراطية وتلك الشمولية. وفي تموز/ يوليو الماضي، قدّم بومبيو الاستراتيجية الأخيرة لإدارته تجاه الصين. هَدَف، وقتذاك، إلى إلقاء نظرة إيديولوجية على هذا العداء، مذكّراً بأن «علينا أن نضع في اعتبارنا أن نظام الحزب الشيوعي الصيني هو نظام ماركسي لينيني»، وبأن «شي جين بينغ مؤمِن حقيقيّ بإيديولوجية شمولّية مفلسة». هَدَف الخطاب أيضاً إلى إرساء أسس مرحلة أكثر حدّة من الصدام بين الولايات المتحدة والصين، والتي ستقود ــــ بالمفهوم الأميركي ــــ إلى نهايات مشابهة لتلك التي وصل إليها الصراع مع الاتحاد السوفياتي، على رغم كلّ الفروقات التي يمكن ذكرها.
لم يعد ممكناً لجم حالة الانهيار في العلاقات الصينية ــــ الأميركية: الحربان التجارية والتكنولوجية، تضافان إلى الحرب الأيديولوجية، وتشدُّد الحزب الديموقراطي أكثر من الجمهوري إزاء «مسائل حقوق الإنسان». ثمّة نقاط ساخنة كثيرة يمكن أن تؤدي إلى اندلاع حرب في السنوات المقبلة: التطوّرات في شبه الجزيرة الكورية، وزيادة التوترات في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، حيث تتحدّى واشنطن التفاهمات الراسخة وتقترب من الاعتراف باستقلال الجزيرة عن الصين في موازاة التزامها العسكري تجاه تايبيه، فضلاً عن تدخلها المتكرِّر في قضية مسلمي الإيغور وإقليم هونغ كونغ. ينصح لاين واشنطن بالتراجع عن ضمان أمن تايوان والاعتراف بمطالب بكين في الجزيرة، وتَقبّل حقيقة أن قيمها «الليبرالية» لا يمكن تعميمها عالمياً، ويدعوها إلى أن تتوقّف عن التدخل في الشؤون الداخلية لبكين من خلال إدانة سياساتها في هونغ كونغ وشينجيانغ، وإصدار دعوات مبطّنة لتغيير النظام.