بَين طابِخي السّم الحكوميّ ومَن يتجرّعه…
“ليبانون ديبايت” – بولس عيسى
عود على بدء أو كما يقال بالعاميّة “تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي”، هكذا يختصر اليوم المشهد الحكومي الذي يذكّرنا بمشاهد كثيرة مماثلة عشناها في السنوات الاثنتي عشرة الماضية إبّان تشكيل الحكومات.
فبعد الإيجابية التي عمل البعض على ضخّها والتسويق لها بعد تكليف الرئيس سعد الحريري إن لناحية الدعم الاستثنائي الذي كان يحظى به دولياً أو التسهيلات الداخليّة المعطاة له بعكس السفير مصطفى أديب التي قلنا يومها إنها حملات دعائيّة سياسيّة لا أكثر ولا أقل، فقد ظهرت اليوم حقيقة زيف تلك الحملات كلّها، حيث نرى كيف تعثّر التأليف وهو على قاب قوسين من التعطيل الكلي.
في البلاد اليوم، من يرد سبب هذا التعثّر إلى أسباب خارجيّة مرتبطة بالانتخابات الأميركيّة وهناك في المقابل من يقول إن الأسباب داخليّة أي السيناريو نفسه الذي كنا نشهده سابقاً إبّان تأليف الحكومات، خصوصاً ما بعد 7 أيار الـ2008، حيث يقوم فريق الجنرال ميشال عون أي فريق الرئيس والعهد حالياً بالضغط للحصول على ما يريد معطلاً كل شيء تحت نظرية “ومن بعدي الطوفان”.
ولكن ما حقيقة سبب التعثّر؟ وللإجابة بشكل علمي واضح على هذا السؤال علينا بادئ الأمر استعراض النظريتين للخروج بخلاصة واضحة.
أصحاب النظريّة الأولى أي الأسباب الخارجيّة، يدّعون أن “حزب الله” متريث ولا يريد إعطاء ورقة التأليف للرئيس سعد الحريري قبل صدور نتائج الانتخابات الأميركيّة التي تنطلق اليوم لسبب بسيط جداً وهو: إن فاز الرئيس دونالد ترامب فعندها سيسلّم الحزب بوجوب تشكيل حكومة من طبيعة معيّنة، فيما إذا كان الفائز هو المرشح جو بايدن فعندها سيعمد الحزب إلى تحسين شروطه في الحكومة باعتبار أن الإدارة الأميركيّة في هذه الحال ستأخذ وقتاً من أجل مقاربة ملفات المنطقة باعتبار أنها ستتغيّر مع تغييّر الرئيس.
في الموازاة، هناك أصحاب النظريّة الثانيّة الذين يقولون إن لا شيء سيتغيّر في سياسة الولايات المتحدة الأميركيّة الخارجيّة إن تغيّر الرئيس باعتبار أن ادارة هذا البلد تقوم على الـEstablishment وجل ما يمكن أن يتغيّر هو مقدار حدّة المواجهة لا أكثر ولا أقلّ، و”حزب الله” لا علاقة له بما يحصل وأسباب التعثّر الحكومي داخليّة بحتة، بحيث أن ما نشهده هو نفسه ما كان يحصل قبيل تأليف الحكومات السابقة حيث أن فريق العهد يحاول بكل قواه انتزاع أكبر حصّة حكومياً مهدداً كالعادة باستمرار الفراغ إلى ما شاء الله تبعاً لقاعدة “كرمال عيون صهر الجنرال ما تتشكّل حكومة”.
وهؤلاء يجزمون أن الحكومة العتيدة لن تتألف قبل أن ينتزع “رجل العهد” جبران باسيل مطالبه كلها بدءاً من الثلث المعطّل مروراً بحجم الحكومة وصولاً إلى إسقاط المداورة والحصول على وزارة الطاقة والوزارات الأمنيّة، إلى تحديد أحجام باقي الأفرقاء في الحكومة إذ ما من حكومة يحصل فيها “تيار المردة” على حقيبة سياديّة قابلة للتشكل بأي شكل من الأشكال، وكل هذا تحت عنوان “وحدة المعايير”.
وبالتالي، نجد أن حقيقة التعثّر تكمن في منزلة ما بين المنزلتَين وهي مزيج بين النظريّتين. فصحيح أن “حزب الله” لا يريد التأليف قبل صدور نتائج الانتخابات الأميركيّة إلا أن الأصحّ هو أن النائب باسيل يستفيد تماماً من هذا الواقع ويضغط بكل ما أوتي من قوّة للحصول على كل مطالبه وتكبيل الرئيس المكلّف، وهذا ما يضع الحريري أمام خيار من إثنين: إما الانصياع الكامل والتسليم بشروط العهد أو الاعتذار وهذا ما يجعلنا نستنتج أن معركة “عض الأصابع” ستطول والحكومة لن تتألف سريعاً وسيطول الفراغ بانتظار أن ينتزع العهد كامل مطالبه.
وما يدعّم هذا الاستنتاج هو المنطق البسيط جداً، فإذا كان رجل العهد متشدداً إلى الحد الذي رأيناه فيه سابقاً للحصول على مطالبه إبان تأليف الحكومات السابقة أي الأولى والثانية للرئيس الحريري من هذا العهد، فكيف هو الحال إن كنا أمام تأليف حكومة قد تكون الأخيرة من هذا العهد؟ زد على ذلك أننا نمرّ في أزمة اقتصادية قاسية في ظل انعدام الثقة الشعبيّة والدولية. فكيف للعهد أن يقبل أن تتألف حكومة في هكذا ظروف لا يكون له فيها كل ما يريد؟
من جهة أخرى، هناك من أوحى للرئيس الحريري أن طريق التأليف سالكة بمجرّد التسليم بأن تكون حقيبة المال لوزير من الطائفة الشيعيّة الكريمة وأن يسمي الثنائي الشيعي الوزراء الشيعة في الحكومة، وهذا الشخص هو الرئيس نبيه بري الذي قد يريد فعلاً سرعة التأليف ولكن سرعان ما تبيّن خطأ هذا الاعتقاد. وهنا لا يمكن أن نخلص سوى إلى أن السقف الذي يرضي الثنائي الشيعي لا يرضي العهد وهذا ما جعل من حسابات الحقل لدى بري تختلف عن حسابات البيدر لدى باسيل الذي اتكأ على سقف الثنائي الشيعي ليرفع سقفه إلى حدّه الأقصى مطالباً بحصّته بالتسمية وبإسقاط المداورة وتحديد أحجام وأوزان القوى الأخرى في الحكومة وكل هذا تحت عنوان “وحدة المعايير”، كما أنه يعوّل اليوم على تريث الحزب بالنسبة للتأليف ويمضي في العرقلة إلى أبعد حد ممكن.
إن العهد بحسب الظاهر أو لنقل رجل العهد جبران باسيل وخلافاً لما كان يعتقده الرئيس المكلّف، ويسوّق له إبان تكليفه، ليس متلهفاً لتشكيل حكومة بأسرع وقت ممكن. فبالنسبة للعهد هذه آخر معركة فإما أن تكون الحكومة بشروطه أو لا تكون.
أما بالنسبة لمن سيتحمّل المسؤوليّة، فأمام الشعب وبطبيعة الحال ستبدأ الحملات السياسيّة الدعائية المضادة وتراشق المسؤوليات كالعادة وسيختلط الحابل بالنابل خصوصاً إن شاركت وسائل الإعلام بهذه الحملات السياسيّة الدعائيّة وكل ذلك سيأتي تحت قاعدة جوزيف غوبلز “اعطني اعلاماً بلا ضمير اعطيك شعباً بلا وعي”. أما أمام الله والتاريخ فجميع من تورّطوا في “طبخة البحص” هذه يتحملون مسؤوليّة جوع الناس وعوزهم وفقرهم المدقع وتدني أحوالهم المعيشية تحت قاعدة “من جرّب المجرّب كان عقلو مخرّب” فكيف إن جرّبه ثلاث مرّات متتاليّة.