من المنتظر من القادة الأوروبيين أن يرحبوا بسعادة بالغة في حال وصول جوزيف بايدن إلى أعتاب البيت الأبيض، ذلك بعد مرور أربع سنوات من السياسة الخارجية الأميركية التي تضمنت تصاعد حدة التوترات، ليس بين القوى الكبرى فحسب، وإنما بين القوى الوسطى في عديد من مناطق العالم، حسب اعتقادهم.
عليه، فإن التوقعات المنتظرة من الإدارة الأميركية الجديدة مرتفعة للغاية. وليس من المستغرب أن يتوقع القادة والزعماء الأوروبيون إعادة تنضيد العلاقات عبر المحيط الأطلسي، مع الانتقال من النقطة التي توقفت عندها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
قبل كل شيء، كان السيد جوزيف بايدن هو نائب الرئيس أوباما لمدة ثماني سنوات كاملة فيما سبق. وهذا يعني أن تعاود الولايات المتحدة الأميركية العمل والتعاون الكامل مع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتشجيع التكامل الوثيق بين مختلف البلدان الأوروبية، وإعادة الانضمام إلى اتفاقية باريس، مع بث الحياة من جديد في الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة) من بين أمور أخرى.
الانخراط الدبلوماسي
ومع ذلك، فإن العالم المعاصر يعتبر مكاناً مختلفاً تماماً عما كانت عليه الأوضاع في عام 2016. وفي واقع الأمر، فإن المسيرة التي شرع فيها الرئيس السابق باراك أوباما إزاء قارة آسيا إبان فترة ولايته السابقة، لا تزال على قدم وساق. ومن مناحٍ عدة، يمكننا أن نتوقع مواصلة السيد بايدن السير على الطريق نفسها التي سار عليها كل من الرئيس أوباما ثم الرئيس دونالد ترمب. ومع وضع ذلك في الحسبان، فإن الإدارة الأميركية الجديدة، وفي حين أنها ستستهل فترة جديدة من الانخراط في العمل الدبلوماسي، ومنح الأولوية للتعددية السياسية، مع تعزيز الحوكمة والمساءلة بصورة أفضل، مع العمل عن كثب مع الحلفاء، فمن المرجح أنها ستضع نصب أعينها أيضاً مجموعة من المطالب على شركائها، من أجل المساعدة في التعامل مع بعض القضايا الأكثر إلحاحاً وأهمية في الآونة الراهنة. وبعبارة أخرى، لن تشرع الولايات المتحدة في المشاركة بكل بساطة وتنتفض لإنقاذ شركائها من كل أزمة ألمت بهم، وإنما ستتحرك على قناعة منها بأن كافة الشركاء سيتحملون نصيبهم المفروض من المسئوليات والتبعات سواء بسواء.
من الواضح تماماً في الوقت الراهن أن السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية – على اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من التحولات الهيكلية ذات الأهمية – موجهة تماماً نحو مجابهة التحديات الماثلة في القوة الكبرى الأخرى في العالم المعاصر، ألا وهي الصين. ورغم كل شيء، تشكل الصين راهناً أكبر التهديدات والتحديات على الصعيد الاستراتيجي، وللمصالح العالمية الخاصة بالولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي، فإنه يمكن التوقع أنه أثناء العمل والتعاون مع الحلفاء، سينصب اهتمام وتركيز الإدارة الأميركية الجديدة على التحقق من القوة الحقيقية التي تملكها الحكومة الصينية في المجالات المالية، والسياسية، والعسكرية.
وعلى هذه الخلفية، سترغب إدارة السيد جوزيف بايدن في العمل عن كثب مع الشركاء في كل من أوروبا، وآسيا، وأماكن أخرى من العالم. وعلى الرغم من أن هذه المقاربة سوف تختلف بصورة كبيرة عما اعتمدته إدارة الرئيس ترمب من حيث التخلي عن بعض التصرفات والمعاملات غير المتوقعة، فستسعى إدارة السيد بايدن – برغم ذلك – إلى العمل على والاستفادة الكاملة من الدعم الدبلوماسي، والسياسي، والمالي الكامل، من قبل الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة، من أجل تعزيز مصالحها المتنوعة على مختلف الأصعدة، مثل منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، والقوقاز، بحيث يتسنى لها التركيز الكامل على مجابهة القوى العظمى في المحيط الآسيوي.
وعوضاً عن انتظار الاتحاد الأوروبي من الولايات المتحدة أن ترقى مرة أخرى إلى مستوى المسؤولية على اعتبارها قوة عالمية ذات شأن، فإن العكس هو الصحيح. قد تكون الحكومة الأميركية على استعداد لنشر مجموعة كاملة من الأدوات الدبلوماسية، غير أنها تتوقع في المقابل مزيداً من العمل والتعاون من جانب الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد، وذلك عندما يتعلق الأمر بتأمين الساحات الخلفية للبلدان الأوروبية المعنية.
كان الاستياء الحاد الصادر من جانب السيد دونالد ترمب إزاء الاتحاد الأوروبي لعدم اضطلاعه بمسؤولياته الكاملة حيال جيرانه الأوسع نطاقاً، لم يجد آذاناً مصغية إليه في داخل الاتحاد الأوروبي. وبعد كل شيء، كانت بعض الدول ترى أن سياسات واشنطن قلما تتسق مع المصالح الاستراتيجية الأكثر أهمية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي؛ لا سيما عندما يتعلق الأمر بروسيا، وتركيا، ومنطقة الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، من المرجح للسيد جوزيف بايدن أن يعتمد سياسات جديدة ترمي إلى تحييد النفوذ المستشري للحكومة الروسية في كل من أوكرانيا، وروسيا البيضاء، وسوريا، وليبيا.
التحدي الصيني
ومع ذلك، ومع الأخذ في الاعتبار التحديات الاستراتيجية الهائلة التي تمثلها الحكومة الصينية، ستطالب الولايات المتحدة الشركاء الأوروبيين باعتماد مقاربات أكثر قوة، وبأساً، وصرامة، إزاء كل من روسيا وتركيا؛ الأمر الذي يعني التخلي تماماً عن التردد في استخدام الأدوات السياسية ذات الفعالية – مثل العقوبات الاقتصادية – مع استعراض القوة جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأميركية.
وكانت الحكومة الفرنسية قد اعتمدت حزمة من السياسات الخارجية الأكثر تقدماً إلى الأمام، مع بقائها على أهبة الاستعداد لإظهار القوة الدبلوماسية، واستعراض العضلات العسكرية إذا ما تطلب الأمر، ولكن في غياب الدعم من ألمانيا والمملكة المتحدة لن يكون الأداء الفرنسي فعالاً إلى حد بعيد في أفضل الأحوال، وربما يسفر عن نتائج عكسية غير مرغوب فيها في أسوأ الأحوال المتوقعة. وعلى الرغم من اعتزام المملكة المتحدة مغادرة عضوية الاتحاد الأوروبي، فإنها لا تزال في حاجة إلى أن تحافظ على موقفها من الميثاق الثالث للاتحاد الأوروبي، وذلك خدمة للمصالح القائمة والمستمرة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، مع المحافظة في الوقت نفسه على أهمية وجودها ونفوذها الدبلوماسي.
وفي حال بدء إدارة السيد بايدن التعامل مع خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، فمن غير المرجح أن تستثمر كثيراً من رأس المال الدبلوماسي لما وراء القضية النووية الرئيسية المباشرة. ومع اعتبار أن الاتحاد الأوروبي يواجه تهديدات خطيرة من الصراعات المتعددة المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط، فإنه ينبغي عليه أن يضطلع بدور مهم وأساسي؛ ليس فقط في حث وتشجيع الولايات المتحدة على إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة مع الجانب الإيراني، وإنما العمل أيضاً على قيادة عملية سياسية أخرى تهدف إلى تناول القضايا الإقليمية ذات الأهمية، مثل الحد من التدخل العسكري والسياسي الإيراني في كل من اليمن، وسوريا، والعراق، ولبنان.
وتعتبر الحكومة الأميركية في وضع مؤاتٍ وجيد للغاية للاضطلاع بذلك الدور، لا سيما أن بلدان الميثاق الثالث للاتحاد الأوروبي تملك فيما بينها إرثاً قوياً من التاريخ، والمعرفة، والخبرات للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط، وذلك فضلاً عن العلاقات التكاملية التي تربطها مع عديد من البلدان الرئيسية في تلك المنطقة. وعلى هذا الاتجاه، من شأن الاتحاد الأوروبي الإعلان عن التزامه الكامل بالعمل والتعاون جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأميركية، في مبادرة إقليمية كبرى ذات أبعاد أمنية، وبعبارة أخرى أوضح، مبادرة لتقاسم المسؤوليات والأعباء، مع إفساح المجال أمام الولايات المتحدة لتوجيه جل أدواتها الدبلوماسية، والسياسية، والمالية الضرورية في مجابهة التهديدات والتحديات الناشئة عن اتساع رقعة النفوذ الصيني على الصعيد العالمي. وعبر تولي تلك المسئوليات، فإنها ستعمل مرة أخرى على ترسيخ الروابط المؤسسية بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، في لحظة من أكثر اللحظات الحرجة في تاريخ العالم، مع المساعدة على ضمان استمرار المشاركة الأميركية الفعالة في الشؤون الأوروبية ذات الأهمية، في الوقت نفسه الذي تتعامل فيه مع التحديات الناشئة من القارة الآسيوية مترامية الأطراف.
– خاص بـ«الشرق الأوسط»