أزمة الإسلام وأزمة فرنسا

أساس ميديا-عبادة اللدن

كان برنارد لويس أول من طرح تعبير “أزمة الإسلام” عنوانا لكتابه الصادر عام 2003، لكن في إطار مفاهيمي مختلف عما ساقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تنظيره لإسلامٍ فرنسي يخضع لمعايير التماهي الثقافي داخل الدولة- الأمة.

في ذلك الكتاب، طرح لويس معادلة مفادها أنّ “معظم المسلمين ليسوا متشددين، ومعظم المتشدّدين ليسوا إرهابيين، لكن معظم الإرهابيين مسلمون”. يمكن لمن يعاين حادثتي الذبح والطعن في فرنسا أن يجد مصداقا لتلك المقولة، بما هي التجلّي لأزمة الإسلام مع العنف. غير أنّ الفارق بين ماكرون ولويس، أنّ الأخير، وبمعزل عما يلقاه تفسيره الكلي للصراع الحضاري من انتقاد، إلا أنه يحلّل الأزمة في مجالٍ سياسي- تاريخي هو “عالم الإسلام”، كنظير لعالم المسيحية (Christendom)، لا في مجال الإسلام كدين نظير للمسيحية (Christianity). وهكذا يمكن فهم صعود “الإرهاب” لا بوصفه مرآة للنص الموروث، بل في سياق تاريخي فيه ما فيه من فشل التحديث في الدول الإسلامية الناشئة على غير “الجامعة الإسلامية” التي ساد التنظير لها في السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر، وشعور المسلم ببؤس الدولة العصرية التي رسمت حدودها واستحدثت أسماءها الإمبريالية البريطانية- الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى.

في أزمة عالم الإسلام، يمكن سرد تاريخٍ مما يراه الغرب إرهابا بدأ قبل صعود الأيديولوجيا الإسلامية، كان أكبر تجلياته عمليات خطف الطائرات وقتل الرياضيين الإسرائيليين التي قام بها فلسطينيون في الثمانينات على أسس قومية، لا دينية. بل إنّ كثراً من قادة منظمة التحرير الفلسطينية كانوا مسيحيين. وهذا يحيل إلى الصيرورة التاريخية السياسية للعنف.

على هذه الخلفية يمكن فهم محاولات التأصيل الفقهي للعنف الجهادي، بنسختيه السنية والشيعية، كجزء من الصيرورة التاريخية السياسية لعالم الإسلام بما فيه من تحديات الوجود والهوية والحداثة. بل إنّ لويس يقدّم أمثلة على تجاوز النص أو تطويعه للمقولة السياسية، كما في الفتوى الشهيرة التي أجازت لابن لادن قتل آلاف المدنيين في الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي وتفجيرات السفارات الأميركية في أفريقيا خلافاً للمتوارث في كلاسيكيات الفقه الإسلامي، وكذلك الفتاوى التي أجازت قتل النفس في العمليات “الاستشهادية”، وفتوى الخميني الشهيرة بهدر دم سلمان رشدي.

الإشكال الأوضح في التقديم الفرنسي لما يسمى “أزمة الإسلام” أنّ ماكرون لا يرى حدًّا فاصلاً بين الدين والأيديولوجيا، فالأزمة في منظوره أزمة عالمية يواجهها الإسلام بما هو دين/ أيديولوجيا “في كلّ مكان”

 

تلك الفتاوى، بما هي عناصر تأزّم بين العالم الغربي والإسلام، لا يمكن الدخول إلى تحليلها من منظور النص الموروث فحسب، بل لا بدّ من فهم السياق التاريخي للحالة السياسية أو الأيديولوجية التي انتقت النص أو أوّلته أو طوّعته. وكما يقول المفكر الدكتور رضوان السيد في كتابه “الجماعة والمجتمع والدولة” (1997)، إن “كلّ تفسير للقرآن أو استصحاب للسنن يأخذ في الواقع طابعاً أيديولوجياً عند تمأسس الدين أو تجلّيه في حزب أو جماعة سياسية أو أيديولوجية دوغمائية العقائد والسلوك”.

الإشكال الأوضح في التقديم الفرنسي لما يسمى “أزمة الإسلام” أنّ ماكرون لا يرى حدًّا فاصلاً بين الدين والأيديولوجيا، فالأزمة في منظوره أزمة عالمية يواجهها الإسلام بما هو دين/ أيديولوجيا “في كلّ مكان”، بغضّ النظر عن السياقات المحلية في كلّ أمة أو دولة أو جماعة. هي أزمة نص وعقيدة وثقافة. وهو بذلك لا يرى حادثة ذبح الأستاذ صموئيل باتي، أو حادثة الطعن أمام الكنيسة في نيس كمظهر من أزمة تواجهها فرنسا في إدارة الاندماج والتنمية في أحزمة البؤس، أو في العلاقة مع المسلمين في مستعمراتها السابقة، بل هي أزمة الإسلام، تتظهر في فرنسا كما في أيّ مكان فيه مسلمون.

مؤدّى ذلك أنّ التمايز الثقافي للمسلم في المظهر أو المأكل أو الممارسة الاجتماعية هو بحدّ ذاته مظهر انفصالي، بغضّ النظر عما إذا كان ذلك المظهر يتلازم مع تبنّي أيديولوجيا انعزالية أو عنفية في النظرة إلى الآخر. الافتراض هنا أنّ الطقس الديني- الاجتماعي المختلف يشكل بحد ذاته دلالة سيميائية على نقص الولاء للدولة- الأمة. وإذ ذاك لا بدّ من تدخل الدولة لفرض الانسجام الطقسي، ليكون أدعى إلى الانخراط في الثقافة الجامعة.

تقديم ماكرون لمسألة الحريات لا يستكشف الحدّ الفاصل بين ما يعتبر في نطاق حرية التعبير وما يتجاوزه إلى “خطاب الكراهية”

 

يصل الأمر بوزير الداخلية الفرنسي إلى حدّ اتخاذ موقف سلبي من توافر اللحم “الحلال” في الأسواق (لم يشر في المقابل إلى “الكوشر” المتوافق مع الشريعة اليهودية). وهذا هو المقابل العملي لمنع لحم الخنزير أو الكحول أو فرض الحجاب في الدول الإسلامية ذات الأقليات المسيحية. تلك النظرة المفاهيمية المتطرفة يُخشى أنها تقدّم أولوية الانسجام الثقافي داخل الهوية الفرنسية على التعدّدية والحرية الشخصية، وذاك مطلب لا يتحقق إلا بسياسات مختلفة للهجرة. ومن نافل القول إنّ إشكالات ملف الهجرة هي إشكالات سياسية بالدرجة الأولى، تضرب جذورها في تاريخ من الاستعمار والتفاوت التنموي وخيبات التحديث في المستعمرات السابقة.

الإشكال الآخر أنّ تقديم ماكرون لمسألة الحريات لا يستكشف الحدّ الفاصل بين ما يعتبر في نطاق حرية التعبير وما يتجاوزه إلى “خطاب الكراهية”، وهو بحسب تعريف الأمم المتحدة “أيّ نوع من التواصل بالخطاب أو الكتابة أو السلوك، يهاجم أو يستخدم لغة تمييزية في الحديث عن شخص أو مجموعة استناداً إلى ماهية من هم، أي استناداً إلى دينهم أو إثنيتهم أو وطنهم أو عرقهم أو لونهم…”. وتلك شبهة واضحة الأركان في رسوم “شارلي إيبدو” التي تبناها الرئيس الفرنسي.

ربما تشكّل حوادث الإرهاب تذكيراً مزدوجاً بأن لأزمة العنف وجهاً فرنسياً، وبأن الرقص على حافة الكراهية والكراهية المضادة لا يقدّم حلاً.

Exit mobile version