خالد البوّاب-أساس ميديا
يعرف وليد جنبلاط كيف يلهب حماسة الجمهور. كما يجيد تمرير مواقفه السياسية وتلميحاته. لكنّه سرعان ما يعيد تبديد كلّ ما يراكمه، فيعود الجمهور إلى الإحباط أو إلى انتقاد يبقى مخنوقاً. لا الرجل يقلع عن تقاليده أو موروثاته أو أسلوبه “الغريب” في الممارسة السياسية، ولا حتّى الجمهور يملّ من انتظار مواقفه الجدلية والبناء عليها غرقاً في الأحلام، التي تقضي عليها فيما بعد كوابيس الواقعية. يذهب الرجل بعيداً جداً في مواقفه، حيث لا يتوقّع أحد ارتفاع السقف الذي يبنيه، يتطرّف حدّ النهاية، وعندما يتراجع ولو بشكل بسيط، يظهر التراجع وكأنّه نهاية النقاش لا أكثر ولا أقل. هذا الطبع جزء من الموروثات الجنبلاطية أو الدرزية التي تتسم بها دار المختارة، منذ أيام كمال جنبلاط إلى هذا اليوم.
لوليد صولات وجولات في هذا المجال، منذ “يا بيروت بدنا التار من لحود ومن بشار”، إلى زيارته فيما بعد قصرَ المهاجرين في الشام، تحت سيف الواقعية. والمثال ينطبق على ما قاله وليد بشأن أحداث السابع من أيار في مقابلته ليلة أول أمس، إذ حمّل نفسه مسؤوليتها وبرّأ حزب الله منها بالمجّان.
قيل تاريخياً، وفي مرويات عديدة، عن الأسلوب نفسه الذي كان يستخدمه كمال جنبلاط في مثل هذه المحطات، أنّ لقاءً جمع جنبلاط الأب بالرئيس فؤاد شهاب، وبدأ الاول في استعراض آخر التطوّرات الدولية والإقليمية، من حركة عدم الانحياز إلى الوضع العربي وضرورة صوغ موقف لبناني واضح إزاء التطوّرات، ليصل إلى النقاش في مسألة تشكيل حكومة أو تعيينات إدارية ومالية. وقد طالب يومها بتعيين أحد الضباط في منصب عسكري. ويقال إنّ شهاب قاطع جنبلاط حينها، وقال له:” تفضّل بمطالبك يا كمال بيك”.
رفع جنبلاط السقف بوجه الحريري، وصّفه بشكل غير مباشر بأنه يشكّل حكومة مشابهة لحكومة حسان دياب، ولكنه ترك الباب مفتوحاً امام مجال المشاركة في حال تسوية الوضع بأن حصل على ما يريد
هذا الأسلوب يشبه إلى حدّ بعيد السقف التصعيدي الذي خرج به وليد جنبلاط في مقابلته مع قناة “الجديد”. هو بلا شكّ عرّى القوى السياسية كلها على طريقته، كما عرّى سعد الحريري ومبادرته. وعلى الرغم من إعلانه أنه لن يسمّيه، إلا أنه ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال تسوية الوضع والخلاف، بتراجع الحريري عن الإهانة التي تتمثل بالذهاب إلى إبرام تسويات أحادية أو ثنائية، والتصرّف بأن وليد “تحصيل حاصل” و”بالجيبة”. هذا أكثر ما استفز جنبلاط، الذي سمع أكثر من مرة كلاماً عن لسان الحريري وهو يقول عندما يسأل عن موقفه: “جنبلاط عندي”.
رفع جنبلاط السقف بوجه الحريري، وصّفه بشكل غير مباشر بأنه يشكّل حكومة مشابهة لحكومة حسان دياب، ولكنه ترك الباب مفتوحاً امام مجال المشاركة في حال تسوية الوضع بأن حصل على ما يريد. لم يكن موقف جنبلاط يعبّر عن جرح، لو لم يكن مقتنعاً بأن هناك تسوية قد بدأت ملامحها بالاتضاح، فرفع السقف كعادته ليحجز موقعه ويعزّز حصّته ومكسبه، تحت شعار “خوف” الأقلية، من الاستبعاد أو التهميش أو التجاهل. كان واضحاً في أنه يمسك “الميثاقية” السياسية لتكليف الحريري وهو يطالب بثمن يقابلها. بمثل هذا الموقف يعود جنبلاط ليضعف موقفه، فيعود إلى قواعد اللعبة التفصيلية والمصلحية، فتجهض أحلام وتتبدّد آمال. بينما كان بإمكانه أن يدير لعبته بطريقة مغايرة، ويبقى على موقفه بدون استدراج العروض او حجز الموقع، فيدفع الجميع إليه ويفرض شروطه.
بدأ جنبلاط مقابلته الأخيرة بسقوف عالية وقراءة واضحة وصائبة محلياً ودولياً، لكنّه خلص إلى التبرّع لحزب الله بمواقف مجانية، أبرزها رفع “ثقل” التسبّب بأحداث 7 يّار عن كاهل الحزب وحملها على ظهر المختارة، وثانيها الاعتذار المقصود وغير المبرّر حين قال “نصر الله” ثم أردف: “السيد نصر الله، بعتذر”، وثالثها “بيع” واحد من أسرار “القوات اللبنانية” بالقول إنّ سمير جعجع أخبره أنّه يشرف على 15 ألف مقاتل. وهذا يتجاوز الغدر السياسي إلى الغدر الأخلاقي، بكشف “المجالس” وأماناتها، بغضّ النظر عما إذا كان ما قاله صحيحاً أو غير صحيح… لينتهي إلى طلب “لقمة” صغيرة مقابل “الوحوش” الثلاثة التي سلّمها للحزب، وهي وزارة الصحّة. وذلك كشرط ليسير بالتسوية.
يبقى أمام جنبلاط والحريري فرصة واحدة للعودة إلى الثوابت. فرصة جنبلاط في رفض التسوية، وإن سار الحريري إليها، بأن يفقدها الميثاقية السياسية الدرزية، وأن يقتصر التكليف على أصوات قوى 8 آذار
يخطئ جنبلاط إذا ما التحق بركب الحريري وقبل بالتسوية التي تتمّ حياكة خيطانها، كما فعل في التسوية الرئاسية في العام 2016، عندما التحق بركبها وعاد وعبّر عن ندمه لاحقاً. لكن هذه المرّة تبدو المواقف الدولية أكثر وضوحاً، خصوصاً أميركياً وسعودياً، من طرح الحريري، وبالتحديد لجهة عدم منحه الغطاء السياسي الخارجي. خصوصاً أنّ الدخول إلى هذه الحكومة سيفرض على الحريري التعرّي من أيّ مقومات حفظ ماء الوجه، والتسليم بكلّ مطالبات حزب الله وميشال عون وجبران باسيل.
يبقى أمام جنبلاط والحريري فرصة واحدة للعودة إلى الثوابت. فرصة جنبلاط في رفض التسوية، وإن سار الحريري إليها، بأن يفقدها الميثاقية السياسية الدرزية، وأن يقتصر التكليف على أصوات قوى 8 آذار. أما فرصة الحريري لتجنّب خيار الانتحار، فتكون في حال حصل على التكليف، أن يشكّل حكومة مستقلّة من وزراء اختصاصيين بدون مراجعة القوى السياسية، فيقدّمها لرئيس الجمهورية، وحينها إما أن يقبلها وإما أن يرفضها، تماماً كما كان الخيار الذي منع الحريري وربما الفرنسيين، مصطفى أديب من الذهاب إليه.