لندن | شهد الأسبوع الأخير من أيلول/ سبتمبر الماضي هجوماً آذربيجانياً أعاد إشعال نزاع استمرّ عقوداً بين أرمينيا وآذربيجان حول منطقة ناغورنو قره باغ، وكان قد جُمِّد على شكل وقف لإطلاق النار، بعد حرب انتهت شكلياً في عام 1994. وخلال أيام عديدة، تصاعد الصراع إلى ما بعد خطّ التماس بين القوات الأرمينية والآذربيجانية، وتعرّضت ستيباناكيرت (50 ألف نسمة)، عاصمة جمهورية الإقليم المُعلَنة من جانب واحد، لقصف عنيف، قالت «منظمة العفو الدولية» إنه استُخدمت فيه الذخائر العنقودية، فيما ضربت أرمينيا أهدافاً في آذربيجان خارج منطقة قره باغ.
بقراءة سريعة لجولة القتال الحالي، يبدو من الجلي أن الأحداث مختلفة هذه المرّة عن النوبات السابقة، ليس فقط لناحية ارتفاع منسوب العنف، ولكن في التورّط التركي المباشر في دعم آذربيجان وتسليحها، بما في ذلك تجنيد المرتزقة من «مجاهدي» سوريا، وشحن ما لا يقلّ عن ألفٍ منهم للمشاركة في قتل السكان المحليين، فضلاً عن عشرات الضبّاط الأتراك الذين يقدّمون خدمات استشارية لنظام باكو.
شرارة الصراع الذي اندلع بداية أيلول/ سبتمبر كانت في منتصف تموز/ يوليو الماضي، خلال اشتباك حدودي قُتل فيه سبعة من أفراد القوات الآذربيجانية، بِمَن فيهم ضابط عالي الرتبة. وقد تعهّد رئيس آذربيجان، إلهام علييف، وقتها، بأن «تتحمّل القيادة السياسية والعسكرية لأرمينيا المسؤولية الكاملة عن الاستفزاز». وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، انضمّت تركيا إلى آذربيجان في مناورات عسكرية بالأسلحة الثقيلة استمرّت أسبوعين، ووُصفت حينها بأنها تمرين سنوي. ولكن الرسالة كانت واضحة: آذربيجان تستعدّ لمعركة حقيقية، وتركيا تدعمها. وهو ما أعلنه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لاحقاً، من دون مراوغة، قائلاً: «نقف في تركيا، بكلّ الوسائل ومن كلّ قلوبنا، إلى جانب الشقيقة والأخت آذربيجان، وسنواصل الوقوف معها – إن شاء الله – إلى أن تتحرّر ناغورنو قره باغ».
ناغورنو قره باغ هي منطقة من المرتفعات تقع بين جمهوريّتَي أرمينيا وآذربيجان. ومن الناحية التاريخية، كانت غالبية سكّانها من الأرمن، ولكن لها صلات جغرافية وثقافية واقتصادية عميقة مع الأراضي المنخفضة في آذربيجان. وعندما اندلع الصراع هناك، في نهاية الثمانينيات، كانت النَزَعات القومية ودعاية الكراهية للآخر – دينياً وعرقياً – السلاح الأمضى الذي استخدمته الزُمر البيروقراطية المتحلّلة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي، بما فيها طرفا النزاع حول ناغورنو قره باغ – وفي يوغوسلافيا كذلك -، لشقّ طريقها إلى السلطة والثروات العامّة. وقد أثبتت أسطورة الأحقاد التاريخية القديمة أنها إطار تفسيري سهل، عندما اندلعت حرب بداية التسعينيات حول الإقليم بين أرمينيا وآذربيجان، لكن قراءة معمّقة للصراع تجد أن الأدلّة على جذور متناهية القدم للعداء في المنطقة ضئيلة للغاية.
كانت المنطقة برمّتها، قبل ذلك، تابعة لبلاد فارس، وظلّت لقرون عديدة مكاناً للتعايش السلمي بين الطوائف الأرمنية والآذرية والكردية، حتى في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما ابتلعتها الإمبريالية الروسية خلال حرب 1826 – 1828. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت شعوب القوقاز ورقة مساومة في صراع روسيا والإمبراطورية العثمانية من أجل الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، وإن استمرّ اختلاط المجموعات العرقية والدينية في أجواء البيئة البروليتارية للمدن.
وعلى الرغم من أن المنطقة ظلّت، خلال القرن التاسع عشر، متعدّدة الأعراق، إلّا أن تأثير انتشار الخطاب القومي الأوروبي عنى أن سكّانها المُختلطين يتّجهون إلى بناء نزعات انفصالية وعدائية على نحو متزايد. وقد خلق التحديث توتّرات وأوجه تفاوت جديدة، كانت تأخذ في كثير من الأحيان تمثيلات عرقية. في عام 1905، أصبحت مدينة باكو مسرحاً لاشتباكات واسعة النطاق بين الأرمن والآذريين. ومنذ عام 1914، أدّت الحرب والإبادة الجماعية التركية للأرمن إلى دورات من العنف والتشريد عبر المنطقة. وفي أعقاب انهيار الحكم القيصري، وثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1917، حاول كلّ من الجورجيين والأرمن والآذريين تخصيص فضاءات جغرافية وطنية محدّدة لأنفسهم. وكانت قره باغ واحدة من أماكن عديدة أدّى فيها ذلك إلى العنف. وعلى وجه الخصوص، فإن القرار الذي اتخذته البيروقراطية السوفياتية، عام 1921، بدمج الإقليم بآذربيجان السوفياتية بدلاً من أرمينيا، كان حاسماً في التأسيس لصراع دائم بين الطرفين.

تخشى روسيا أن تؤدّي الحرب على حدودها الجنوبية إلى إشعال صراعات قديمة داخلها

في ظلّ الحكم السوفياتي، على مدى سبعة عقود، حافَظ الأرمينيون والآذربيجانيون على علاقات سلمية إلى حدّ كبير، إن لم تكن دائماً متناغمة. وكانت كلّ جمهورية موطناً لأقلّيات كبيرة من القومية الأخرى، ولكن التكريس السوفياتي للهويات القومية في جنوب القوقاز تَسبّب في جعل وضع إقليم قره باغ أكثر شذوذاً بشكل متزايد، حيث ظلّ أرمينيو قره باغ يلتمسون – ولو بشكل متقطّع – التوحيد مع أرمينيا. ولاحقاً، في أجواء «البيريستروكيا» عام 1988، نُظّمت تظاهرات واسعة النطاق في كلّ من قره باغ وأرمينيا، للمطالبة بتوحيد الشعبين في بلدٍ واحد، وقَدّمت إدارة الإقليم السوفياتية، بالفعل، طلباً رسمياً بذلك إلى موسكو. ومع أن نظام غورباتشوف رفض الطلب حينها، إلّا أن الأمر أثار غضباً وانعداماً للأمن في آذربيجان، أعقبهما عنف مجّاني بسرعة. وقد أسفرت الهجمات التي شُنَّت على الأرمينيين في مدينة سومغايت عن مقتل 26 أرمينياً وستّة آذربيجانيين، فيما ثَبُت أن سلطات موسكو غير قادرة على فعل الكثير، لتتصاعد الأزمة وتتوسّع أعمال العنف بين الطوائف وحوادث الطرد المتبادل، وليصبح مصير قره باغ محوَراً للحركات القومية في أرمينيا وآذربيجان. ومع حصول الجمهوريّتَين على الاستقلال في عام 1991، تَحوَّل الصراع إلى حرب كاملة حقّقت أرمينيا فيها، بحلول عام 1994، تفوّقاً عسكرياً لم يقتصر على ناغورنو قره باغ فحسب، بل شمل المناطق المحيطة بها من الأراضي الآذربيجانية، والتي شُرّد منها السكان الآذربيجانيون المحلّيون، فيما لم يُفضِ وقف إطلاق النار إلى حلٍّ دائم. وإذ يدخل الصراع، هذا العام، عقدَه الرابع، فإن المنطقة لم تكن في وضع هدوء حقيقي منذ وقف إطلاق النار؛ إذ إن المجتمعات المحلية عاشت حالة من انعدام الأمن والعنف المتقطّع والذعر المستمر، وفقد المجنّدون حياتهم في اشتباكات متكرّرة ومميتة على نحو متزايد، من دون أن يحتكر أيّ من الطرَفَين العنف أو الضحايا.
إن ذكريات الفظائع – مذابح سومغايت بالنسبة إلى الأرمينيين، والمذابح التي راح ضحيّتها مئات المدنيين في خوجالي في عام 1992 بالنسبة إلى الآذربيجانيين – استمرّت تضيف صدًى عاطفياً للنزاع، وتعزّز الصور النمطية عن عدو لا يتغيّر. لكن الأمر، الآن، يتجاوز بكثير مرحلة النزاع المحلي؛ فالإقليم بمجموعه، نظراً إلى موقعه الجغرافي كعقدة بين أوروبا والبحر الأسود والشرق الأوسط، وتوافره على إمدادات غنية من النفط والغاز، تَحوّل منذ 1991 إلى نقطة ساخنة للتنافس بين الإمبرياليات، وخصوصاً الولايات المتحدة وحلفائها، ومن ضمنهم إسرائيل. وقد لعب إردوغان، تحديداً، دوراً خاصاً في إذكاء الصراع العسكري هذه المرّة؛ إذ بعد فترة طويلة من النموّ الاقتصادي في بلاده، نجح بدعم من البرجوازية التركية المتديّنة في تقويض النفوذ الذي كان لا يتزعزع للجيش التركي على حياة المجتمع، قبل أن يُدخِل البلاد في مغامرات عسكريّة فاشلة عبر الشرق الأوسط والمتوسط، تَسبّبت في مرور الاقتصاد التركي في فترة من الأزمات والركود، فانخفضت قيمة الليرة التركية أكثر من ثلاث مرّات خلال السنوات الخمس الماضية مقابل الدولار الأميركي، وهو ما تسبّب في انخفاض ملموس على مستويات المعيشة. ومع تغيّر الوضع على هذا النحو، بدأ إردوغان في البحث عن طريقة للمصالحة مع نخبة الجيش. ونظراً إلى حقيقة أن هذه الأخيرة قد نشأت على ثقافة كمال أتاتورك المعادية للإسلام، فإن القومية الطورانية تبقى نقطة الالتقاء الوحيدة بين الطرَفَين، وهنا يأتي شعار الإسلاميين الدعائي «شعب واحد في عدّة بلدان». إردوغان بحاجة إلى حرب صغيرة منتصرة، بعدما فشل في سوريا وليبيا، وفي ناغورنو قره باغ سيحصد نصراً سهلاً، فيما ستذهب التوابيت الخشبية إلى أمّهات الجنود الآذربيجانيين والأرمينيين والمرتزقة السوريين.
تصريحات البيت الأبيض، حتى الآن، بشأن تصاعد النزاع غير واضحة، إذ تزامنت أعمال العنف في ناغورنو قره باغ مع مرحلة من الفوضى في أجواء الانتخابات وتفشّي فيروس «كورونا» بين العاملين في البيت الأبيض، بِمَن فيهم الرئيس ذاته. في هذا الوقت، أُطلقت دعوات ملحّة من داخل فرنسا للحكومة إلى الوقوف إلى جانب أرمينيا، وسط التزام إسرائيلي بدعم باكو، بينما تمتنع إيران، كما روسيا، عن اتخاذ مواقف متشنّجة، وتصرّ على الدعوة إلى مفاوضات ووقف إطلاق النار. ويبدو أن المشاعر المعادية للأرمن تتزايد في إيران، حيث يقيم ما يقرب من 300 ألف أرمني (فيما تشكّل أقلّية من أصول آذرية – تعدادها 20 مليوناً – خُمس سكان البلاد، وتعيش الغالبية العظمى منها في شمال إيران، إلى جوار الحدود المباشرة مع آذربيجان)، ولا سيّما أن السردية التركية – الآذربيجانية عن الصراع تضعه في سياق الدفاع عن الإسلام من هجوم أرمينيا المسيحية. ولا يمكن لهذه السردية إلّا أن تؤثّر كذلك على جوار روسيا، حيث تشكّل الشعوب التي تعتبر تقليدياً مسلمة نسبة كبيرة من السكان، في مناطق مثل الفولغا وشمال القوقاز، فيما هناك وجود قوي للشتات الأرمني، أيضاً، في البلاد. ومما لا شكّ فيه أن هدير المدافع في المدن الأرمينية والآذربيجانية لا يمكن إلّا أن يتردّد صداه في موسكو بشكل أو بآخر.
بالطبع، لدى روسيا، أكثر من غيرها، القدرة السياسية والعسكرية على تسوية الأوضاع في القوقاز. ولكن، من أجل إبقاء أرمينيا في منطقة نفوذها السياسي والاقتصادي، فإن الصراع المشتعل مفيد للكرملن على المدى القصير؛ إذ تبدو روسيا بشكل متزايد المدافع الوحيد عن الشعب الأرميني وشُرطياً لأزمات أوروبا المستعصية. ولعلّ التريّث الروسي في التدخّل، على مدى الأسابيع الماضية، إلى درجة البرود، يكون نوعاً من الانتقام من الثورة الملوّنة هناك عام 2018، إذ لا شكّ في أن فلاديمير بوتين يريد أن يُظهر لدول جوار روسيا، والتي تستجيب للثورات الأميركية الهوى، أنها لا تستطيع الاعتماد على حمايته لها وقت الحقيقة. ومع ذلك، فإن الكابوس الذي يخشاه الكرملن هو أن تؤدّي الحرب على حدود روسيا الجنوبية، وخصوصاً بوجود المرتزقة الإسلاميين، إلى إشعال صراعات عرقية ودينية قديمة داخلها. لذا، فإن بوتين سيجد قريباً أن كرة النار التي أشعلها إردوغان لا بدّ أن تُطفَأ قبل أن ينتشر شررها عبر المنطقة برمّتها.