الأخبار- وسام السبع
في 440 صفحة، تتبّع المؤلف في كتابه الصادر عن «مركز دراسات المشرق العربي» و«دار روافد في بيروت»، في عام 2017، أبرز الظواهر والجدليات التي عايشها التنظيم في مراحله المختلفة خلال ما يزيد على 60 عاماً من انطلاقته، وخصوصاً في عقدَي الثمانينيات والتسعينيات. وتواصلت متابعات المؤلّف لمسيرة التنظيم الممهورة بدم ضحاياه، مروراً بالحدث الفاصل في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، عندما تحوّل الحزب إلى أحد أبرز الأحزاب الحاكمة في العراق. وتوقّف المؤلّف عند الانعطافة التاريخية للحزب في اجتماع 13 آب/ أغسطس 2014، والذي انتهى بإعلان تنازل نوري المالكي عن حقّه القانوني في الترشح لرئاسة الوزراء لمصلحة محازبه حيدر العبادي، كاشفاً عن بعض ملابساتها، والحراك الداخلي الذي صاحب القرار، والأطراف التي شاركت في صنعه: قيادة «حزب الدعوة»، و«المرجعية العليا» في النجف، والقيادة الإيرانية.
تناول الكتاب بدايات «حزب الدعوة». وناقش فيه المؤلف الدوافع الواقعية لانبثاق حراك إسلامي شيعي، عندما كانت الحاجة إلى العمل التغييري المنظّم الذي ينشد التغيير في واقع الأمّة الثقافي والسياسي في الوسط الشيعي على أشدّها، لأن الوسط السنّي سبقه إليه. فقد برزت – يذكر المؤلف – منذ نهاية العشرينيات، تنظيمات وتجمعات إسلامية سنيّة كبيرة، كـ”الإخوان المسلمين” في مصر، و”حزب التحرير” في بلاد الشام، والجماعات الإسلامية في الهند وباكستان وتركيا وغيرها. من جانب آخر، فإنّ التنظيمات الشيعية الرائدة، كـ”جمعية النهضة الإسلامية” و”حزب النجف”، و”الجمعية الإسلامية الوطنية” وغيرها، كانت تجمعات آنيّة تشكّلت لأغراض محدودة وانتهت بانتهائها. أما الجمعيات الإسلامية الشيعية التي تأسّست في الخمسينيات، كـ”حركة الشباب المسلم” و”منظمة المسلمين العقائديين” وغيرها، فكانت هي الأخرى محدودة وذات إمكانات متواضعة تنسجم مع أهدافها، ولم تسمح لها ظروفها باستيعاب الساحة.
في هذه الأجواء، انبثقت فكرة تأسيس “حزب الدعوة” الإسلامي، الذي شكّلت ولادته انعطافة غير مسبوقة في الوسط الشيعي على مستوى الممارسة التنظيمية والرؤية التأصيلية لعملية التأسيس العصري للدولة الإسلامية وفق منظور مدرسة أهل البيت. على أنّ مداولات تأسيس الحزب استمرّت بين أصحاب الفكرة وأقرانهم حتى أواسط عام 1957، وعقد خلال هذه الفترة أكثر من اجتماع تأسيسي تحضيري في النجف، معظمها في بيت السيد محمد باقر الصدر.
وتوقّف المؤلف عند سنة التأسيس وحسم الجدل في شأنها، بالقول إن “حزب الدعوة” تأسّس في النجف في آب/ أغسطس عام 1957، وإن اجتماع النجف في بيت الصدر هو الاجتماع التأسيسي، وقد حضره ثمانية، وإن اجتماع أداء القسَم في كربلاء في بيت المرجع الديني الأعلى، السيد محسن الحكيم، هو الاجتماع الرسمي الأول للحزب، وحضره سبعة، بينهم ستة ممَّن حضروا اجتماع التأسيس في النجف، وهم: السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد مهدي الحكيم، عبد الصاحب دخيل، السيد طالب الرفاعي، السيد مرتضى العسكري، السيد محمد باقر الحكيم، محمد صادق القاموسي، المحامي السيد حسن شبر، الدكتور جابر العطا والمهندس محمد صالح الأديب.
وتحدّث عن الرعيل الأول للحزب الذي شارك في إكمال عملية التأسيس، ثم الجيل الأول من الدعاة، متناولاً الدور المحوري الأبرز للسيد محمد باقر الصدر في تأسيس الحزب وقيادته وتجلّيات هذه القيادة المهيمنة على مستوى التأسيس والتنظير الفكري والزعامة الروحية. كما توقّف عند موانع الاجتماع الديني والسياسي أمام انتشار “الدعوة”، وأبرز القادة الذين أفرزتهم المراحل التاريخية المتعاقبة التي خاضها الحزب في ظل الظروف الصعبة غير المواتية التي مثلها: استبداد السلطة ومخاطره الأمنية، وتعقيدات الوضع الديني في النجف، والتحدّي الأيديولوجي للتنظيمات العلمانية القومية (حزب البعث) واليسارية (الحزب الشيوعي)، وانعكاسات كل ذلك على مسار تجربته.
«الدعوة» وإشكاليّة العلاقة بالمرجعيّة الدينيّة
يطرح المؤلف – أيضاً – في الفصل الرابع من الكتاب، موضوعاً حساساً بعنوان «علاقة الدعوة بالمرجعية الدينية وولاية الفقيه»، باحثاً معطيات الوسط العراقي الديني المناوئ لـ”حزب الدعوة”، وموقف المناصرين للمرجعية من الحزب، وموقف أنصار ولاية الفقيه منه، وانعكاس هذه المواقف على تحريك دوافع الانشقاق عند بعض «الدعاة»، ثم يبحث قرائن التصاق “حزب الدعوة” بالمرجعية ويعرض شواهد لها، مفنّداً مقولة التباعد والمباينة المزعومة بين “الدعوة” والمرجعية الدينية.
«الدعوة» اليوم: الإرث الصعب والواقع الهجين
يتّسم الفصل السادس والأخير براهنية خاصة، إذ يطرح فيه المؤلف جملة من المواضيع المتعلقة بحاضر العراق السياسي وموقع “الدعوة” في جدلية الحلّ، مشدداً على أهمية القراءة العلمية لأزمات العراق، فهي وحدها الكفيلة بوضع المعالجات الواقعية للعراق الجديد. ومن أبرز المواضيع التي يناقشها الفصل، موضوع التعايش الوطني. ويتوقف طويلاً عند مقولة “فشل الإسلام السياسي وحلم البديل العلماني”، واضعاً إطاراً تاريخياً للمشكلة الطائفية في العراق، ومحاولة فهم ركائزها الغائرة في بنية المؤسسة الحكومية.
يقول المؤمن: “إن أزمات العراق لصيقة بتكوينه الخاطئ بعد معاهدة سايكس – بيكو، التي أورثت العراق كل موبقات السلطنة العثمانية الطائفية، ثم بقيام ما عرف بالدولة العراقية في عام 1921، وما ترشح عنها من مركب سلطة طائفية عنصرية، تحمل الإرث العثماني والأموي في مضمونها، ولون الاحتلال والاستعمار البريطاني في شكلها، ويحكمها ملوك مستوردون من الخارج، وبإفرازات ما عرف بأفكار الثورة العربية… وقد تبلورت الأزمات بأفقع ألوانها بتأسيس نظام البعث العراقي بعد انقلاب عام 1968، واستدعائه لكل مفاسد الموروث الطائفي العنصري، بدءاً بالموروث الأموي، وانتهاءً بفكر وزير المعارف في العهد الملكي ساطع الحصري، وعنصرية حكم عبد السلام عارف وطائفيته، وأيديولوجيا مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق. ونتج من كل ذلك ثقافة مجتمعية مأزومة، وثقافة سلطوية قمعية، ونظم سياسية وقانونية مولّدة للأزمات، ومراكِمة لها، ومفكِّكة لبنية المجتمع، ومدمِّرة لوحدة الدولة، ومثيرة للحروب والصراعات الداخلية بين مكونات الشعب العراقي”. (ص 292). وهو الإرث المأزوم والمفخخ بالأزمات، والذي أعاد إنتاجها وتوليدها نظام “البعث”، واستثمر إمكاناته التدميرية الكامنة في فرض جبروته واستبداده على كل شرائح المجتمع العراقي، وسحق مناوئيه.
باحث وإكاديمي بحريني