رستم محمود
تكاد أخبار حرب القوقاز كأنها لا تصدق. الحرب التي شنتها أذربيجان على جارتها أرمينية دون مقدمات تحذيرية أو تمهيدية، تشبه في وجوهٍ كثيرة منها حروب القرون الوسطى، حينما كانت جماعة أو دولة ما، أكثر شكيمة وقوة عسكرية من واحدة مناظرة، على خوض حرب مفتوحة ضدها، ثم تتلقى تأييدا ومساعدة من الجماعات والدول التي تطابقها في الهوية، ويسعون سوية لمحق هذا الكيان النظير، يحطمونه عسكريا ويلغونه سياسا ويستولون ويتوزعون خيرات أرضه ومجتمعه.
كل ذلك حاضر في كل تفصيل من هذه الحرب، فخلال أقل من أسبوعين فحسب من الحرب، هُجر نصف سكان المنطقة المتنازع عليها، ودُمرت مئات القرى والبلدات في الجانب الأرمني من الحدود؛ وكل ذلك بسبب كثافة النيران والتقنيات العسكرية الاستثنائية التي يستخدمها جيش أذربيجان، والتي حصلت عليها من حليفتها العرقية تركيا، وبفضل عائدات استخراج النفط والغاز. مقابل دولة حبيسة جغرافيا ومسالمة سياسيا ومتواضعة الإمكانيات عسكريا، لكن أولا مختلفة عرقيا ودينيا، كأرمينيا.
ما كان هذا الخلل التكويني في علاقة الطرفين أن يحدث لو فاعلين خارجيين، لكن تأسيسيين في الحدث القوقازي. يتعلق الأول بطبيعة النظامين الحاكمين في تركيا وأذربيجان، المشيدان على صلابة قومية لا تخفي نزعاتها العرقية، والمستعدة لفعل وممارسة كل شيء في تلك الرؤى والمخيلات القومية المتطرفة، بما في ذلك خوض حروب عسكرية، عرقية ومفتوحة، وقبل أية خيارات أخرى قد تكون مفتاحية لحل للمسائل المُختلف عليها.
العامل الثاني يتعلق بالمنظومات الإقليمية والدولية المحيطة بالمشهد. فجوهر النظام السياسي الإقليمي القوقازي كان قائما تقليديا على توازن معقول بين روسيا وإيران من طرف وتركيا من طرف آخر. لكن راهنا تبدو تلك الدول الثلاث متفقة تماما على إزاحة جميع العوائق والخلافات فيما بينها، فقط في سبيل تقاسم الغنائم، والعوائق في هذه الحالة هُم مهشمو المنطقة، من الأكراد إلى الأرمن، مرورا بالسوريين والعراقيين والقبارصة.
يساعد روسيا وتركيا وإيران في ذلك نظام عالمي مسترخٍ تماما وخالٍ من أية قيمة أخلاقية أو نزعة سياسية ذات مضمون وقيمة، وفوق ذلك مُصرٌ على الانسحاب التام من ملفات المنطقة، بالذات من قِبل الولايات المتحدة؛ كذلك، فإن الخلافات الداخلية في المنظومة الأوروبية لا تسمح لها بلعب أي دور فعال في مثل هذه الملفات الساخنة.
كل تلك التفاصيل تعيد للذاكرة الجمعية إمكانية تكرار مأساة الشعب الأرمني، التي نفذتها الجيوش العثمانية/التركية وملحقاتها ابتداءً من العام 1915، وراح ضحيتها قرابة ثلثي ذلك الشعب، وفقد بموجبها أكثر من ثلاثة أرباع مناطق سكنه التاريخية.
فمثل الآن تماما، كانت تركيا وقتئذ دولة يقودها نظام سياسي قومي/عرقي، يتبنى قادته من تنظيم “تركيا الفتاة” خطابات وأفكار القومية الطورانية، التي تنزاح لأن تتخيل وتسعى لاختلاق إمبراطورية عُظمى، من حدود الصين إلى بحر إيجة، مبنية على اتحاد أبناء العرق التركي في مختلف الدول التي في هذه الجغرافيا الشاسعة، وقابلة لمحق كل المعترضين عليها.
كانت الإبادة الجماعية بحق أبناء الأرومة الأرمنية تتويجا وتعبيرا وأوليا لتلك النزعة العرقية الشعبوية التركية وقتئذ، لكنه أيضا كان حدثا ما كان له أن يجري لولا “الحلف المقدس” الذي أبرمته دولة عظمى كألمانيا وقتئذ مع الإمبراطورية العثمانية، ولولا التراجع الروسي في دعم الأرمن عقب الانتصار في معركة “صاري قاميش” في أوائل العام 1915، وتاليا انسحاب السوفيات تماما من الحرب، ودعمهم فيما بعد لأتاتورك، بعد الثورة البلشفية عام 1917، ذلك الدعم الذي على أساسه أعاد أتاتورك بناء تركيا القومية/العرقية، وخاض حربه الثانية ضد الأرمن عام 1920، وحاصرهم في أرمينيا الشرقية، التي صارت فيما بعد دولة أرمينيا الراهنة.
كل شيء مطابق تماما لما يجري راهنا.
صحيح أن العالم شهد طوال قرنٍ كامل مضى منذ ذلك التاريخ الكثير من الحروب وأشكال الإبادة العرقية والجماعية، مثل سلوكيات الاستعمار وسياسات الفصل العنصرية والشموليات العسكرية والمحارق النازية بحق اليهود الأوروبيين، لكن الإبادة الأرمنية وما يناظرها من بنيان سياسي للقومية العرقية التركية، وحدها شهدت هذا النوع الاستثنائي والفظيع من المسامحة والغفران والقبول من النُظم السياسية والثقافية والاجتماعية العالمية. ولذا بالضبط، فإنها الأكثر قابلية لإعادة الاندلاع والإنتاج والتكرار، وبنفس الآليات التي كانت.
بالنسبة للاستعمار والعنصرية ومعاداة السامية، في دول مثل الجزائر وألمانيا وجنوب أفريقيا، وحتى الولايات المتحدة وغيرها الكثير من الدول الأخرى، فإن الكيانات والمجتمعات التي جرت فيها تلك الأحداث خاضت نضالات متراكمة لمحاسبة المرتكبين وتجاوز الجروح الجماعية. كانت الأنظمة التشريعية والبرامج التعليمية والبُنى السياسية أساسا لذلك التجاوز، بطريقة صار فيها المجتمع والفضاء العمومية يملك حسا نقديا رفيعا ومناعة ذاتية تجاه إمكانية تكرار تلك الوقائع المشينة.
على مستوى نظير، فإن تلك الأفعال صارت محل حط من الذات العالمية، صارت المنظمات العالمية والدول الأكثر ديمقراطية وتصالحا مع الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان تعد تلك الممارسات مسا بكرامة الذات الإنسانية، وأداة لمعاقبة مرتكبيها بشكل أو آخر.
لم يحدث شيء من ذلك مع المأساة الأرمنية، أو حدث بأشكال بائسة وخجولة، تكاد لا تذكر، مثل اعتبار برلمان هنا المجزرة الأرمنية إبادة جماعية، أو إصدار حكومة هناك بيان تنديد بمناسبة الحدث. أشياء تكاد ألا تُرى، مقارنة بحجم الكارثة.
لم يحاسب أي من الجناة الفاعلين، لا جنائيا ولا رمزيا، ولم يعاقب الكيان الذي نفذ الجريمة، التي لم يعترف بها أساسا، لا هو ولا وريثته السياسية، دولة تركيا الحديثة. فوق ذلك، فإن القيم الأدبية والخطابية للمنظومات والمؤسسات الدولية تكاد أن تكون خالية من أية إشارة لتلك الفاجعة، مثلما تُشير وتندد بالنازية والعنصرية والاستعمار ومعاداة السامية.
على العكس تماما، بقيت الدولة التركية الحديثة تتكون في نفس السياق الذي أقدم فيه المرتكبون على تنفيذ فعلتهم، كدولة قائمة على المفاهيم والقيم والنزعات القومية العرقية، في جميع مؤسسات ومكامن قوة الدولة، في التعليم والقضاء والسياسية، وأولا في الجيش. وطبعا دون أي اعتبار أو تنديد لما جرى، وغالبا الافتخار به.
العرقية الفوقية التي حفظها وطورها النظام السياسي التركي، التي نتجت عن غض نظر دولي وتحالفات إقليمية، كانت المؤسس لإمكانية سرطنة أية دولة أو نظام سياسي لكيان أقل شأنا وسطوة، مثل أذربيجان ونظامها الشمولي الحاكم، الذي يرى في تركيا ونظامها القدوة التي يجب أن تُحتذى. لذا فإن الإبادة الأرمنية قابلة للتكرار، وبكل بساطة، بالضبط مثلما حدث قبل قرن من الآن.
المصدر: الحرة