لم يعد مقبولاً الصمت المريب عن الوقت الضائع الذي تستنزفه خلافات “الشرعية” و”الانتقالي” للبدء في تنفيذ (اتفاق الرياض) غير مكترثين بما يسببه عدم التوافق في أدنى الحدود على تطبيقه منذ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، ولكن ليس مستغرباً من طرفين يعيدان تأكيد عدم ارتفاعهما إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية والسياسية تجاه المواطنين، وعدم اهتمامهما بالكوارث المتلاحقة التي تتراكم بسبب عدم وجود جهة تعمل على أو ترغب في حلها وإيجاد المعالجات الواجبة لتجاوزها.
يذهب مستشارو الرئيس وهيئة رئاسة مجلس النواب من أماكن إقامتهم خارج اليمن للاسترخاء في فنادق مريحة، ثم تلحق بهم أفواج من ممثلي جهات مناطقية. ومن اليقين أن كل هؤلاء لم يذهبوا طواعية كي يجتمعوا لبحث مستقبل البلاد وأزماتها، ولا يتبادلون الأفكار حول كيفية وقف نزيف الدماء اليمنية، ويكتفون في لقاءاتهم ببحث توزيع حقائب وزارية يقتنصونها في الحكومة العتيدة، التي لا يضع عليها الناس أي آمال. والأكثر سخرية أنهم لا يتساءلون إن كان وجودهم الطويل ضرورياً بالفعل أو مفيداً أو أنهم مجرد إضافة لتجميل المشهد وإضفاء صفة الجدية عليه. ولا أتوقعهم يدركون أن لا أحد يهتم برأيهم أو يعول عليهم برأي سديد وشجاع. فقد أدمنوا الاستمتاع بالخدمات المجانية، عسى أن يمر مسؤول كبير يلقي التحية عليهم عن بعد.
الخلاف الذي يجري بحثه في دائرة مغلقة منحصر في قضيتين أساسيتين، هما، إعادة انتشار القوات العسكرية والأمنية وخروجها من عدن، والثاني هو تشكيل الحكومة. لكن الواقع الذي يحاول الجميع إنكاره، هو أن الأمر أشد تعقيداً إذ يرتبط بانعدام الثقة بين المجلس الانتقالي والرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي ما زال المجتمع الدولي يعترف به ممثلاً وحيداً لـ”الشرعية”، وتناقض أهدافهم المعلنة وأجنداتهم الواضحة للجميع وإن كانت غير معلنة. وأمر آخر بمثل تلك الأهمية، هو أن الطرفين يفتقدان إلى الخيال السياسي والقدرة على الابتكار. ما يتسبب بطبيعة الحال بعدمية مستقبل ما يدور في الرياض حالياً، واستمرار الدوران في الحلقة المفرغة.
يبدو أن المملكة العربية السعودية لن تسمح بمغادرة الحكومة اليمنية قبل التوصل إلى اتخاذ إجراءات عملية لبدء تطبيق (الاتفاق)، ولن يكون ذلك بعد حدوثه إلا بداية مشوار جديد شديد الوعورة والتعقيد، مَعلَمه الأبرز هو العجز المروع في الموارد التي سيكون لزاماً على الرياض أن توفر تغطية لها حتى ينتقل النجاح من النص إلى التطبيق على أرض الواقع، وحتى يقتنع المواطنون بجدواه لأن التجارب السابقة في الاتفاقات اليمنية – اليمنية لا تمنح الناس فرصة التفاؤل بها. وهذا سيضع على كاهل السعودية عبئاً سياسياً ومالياً يجب مواصلته، ولن يمكنها التخلي عنه خلال المراحل المختلفة التي ستلي بدء تنفيذ الاتفاق.
في الوقت نفسه، هناك أزمة خانقة ترمي “الشرعية” بأسبابها ونتائجها على “الانقلاب الحوثي” و”انقلاب الانتقالي”، وهو أمر صحيح في حدود، ولكنه لا يعفيها من مسؤولية الانغماس في مسلسل الفساد والارتباك والتعامل بخفة مع القضايا الملحة والعاجلة. فالحوثي خرج من عدن والجنوب في شهر يوليو (تموز) 2015، وعلى الرغم من ذلك فإن الحكومات المتعاقبة عجزت عن توفير الأمن والخدمات الأساسية، مثل الكهرباء، لمدينة صغيرة مثل عدن، بل إن المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات جراحية غير معقدة يضطرون إلى زيارة صنعاء لإجرائها، كما أن “الانتقالي” كطرف مستجد، لم يكن قادراً على تصدر المشهد الجنوبي إلا بسبب غياب “الشرعية” وإهمالها وعجزها الفاضح، وعدم جدارتها وعدم قدرتها على كسب ثقة الناس بها.
لقد أدى هذا السلوك المستخف بحقيقة الأوضاع، سواء من كانوا في “الشرعية” أو “الانتقالي”، إلى أن يفقد الناس ثقتهم بقدرة أي منهما على توفير الخدمات الأساسية التي يحتاج إليها المواطنون العاديون، وهو ما يضاعف الغضب تجاه كيانات تزعم أحقيتها في إدارة ما تحت يديها، ولكنها لا تقوم ولا تبذل جهداً حقيقياً للقيام بواجباتها. ما يدفع الناس إلى اليأس منهم وتوفير بيئة ناضجة لتدخلات خارجية جديدة وظهور جماعات متطرفة تملأ الفراغات، كما حدث في الصومال قبل انتهاء الحرب الأهلية التي طحنتها.
إن تنامي شعور الإحباط عند المواطنين، لم يعد خافياً علـى أحد، والجميع يتحدث عن سوء أداء وعجز واضح للعيان، وكسل ذهني في إحداث تغييرات تعيد الأمل للناس في “الشرعية”. وأخشى أن يكون الضجيج حول تشكيل الحكومة ملهاة جديدة ينشغل الجميع في تحليل أهدافها وطموحاتها، بينما هو حتماً لن يكون في مجمله إلا إعادة تدوير مواقع بين مكونات أثبتت على مدى السنوات الماضية، عقم تفكيرها وانحسار قدرتها على التجديد. فمرور قرابة عام على توقيع اتفاق الرياض من دون التمكن من التوصل إلى تفاهمات حول تنفيذ بنوده، ليس مرده إلى غموض في النصوص، وإنما بسبب خوف الأطراف اليمنية من بعضها، والشكوك والتنافس والمماحكات الشخصية التي تملأ فضاءات العلاقات بين ممثليها.
لقد مر على بدء الحرب أكثر من خمس سنوات، ومذ ذاك لم تتمكن “الشرعية” من إنجاز أي من أهداف الشعارات التي تطلقها. وصار من الواجب الأخلاقي والمسؤولية الوطنية أن تعلن عجزها، وأنها مستعدة للتخلي عن صدارة المشهد، وأنها غير متشبثة به، لعناصر وتكوينات جديدة تؤمن بمبادئ الشرعية الدستورية واستقلالية القرار الوطني والمواطنة المتساوية، تحت سقف دستور يحمي الجميع بلا تمييز مناطقي وطبقي. فالجميع صار مستوعباً أن بقاء الأحوال في مسارها الحالي لن يسمح بالخروج من كارثة الواقع الدامي، ولن يؤدي إلى وقف الحرب التي بلغت مداها.
لقد آن الأوان لانتقال التفكير من مرحلة الإصرار على تثبيت الأوضاع الهشة العاجزة إلى البحث عن أطر جديدة من العمل الوطني بأفكار تبتعد عن فكرة المحاصصة واللهاث وراء الوظيفة كطموح سياسي لا تؤدي المهمات المناطة بها. وهذا لا يمكن أن تنجزه الشخصيات التي، ربما، تكون قد حاولت لكنها حتماً فشلت في الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم، وبرهنت الأحداث أنها غير قادرة على انتشال أوضاعهم من حالة الركود والخمول والفساد. وصار الناس ينظرون إلى “الشرعية” كـ “جمل المعصرة”، الذي لا يستطيع ولا يفكر في أن يبرح نطاق القطر الثابت، الذي وضعه فيه مالكه أو مستأجره، فيمضي عمره كله يدور حول نفسه كما تقتضي حاجة صاحب المعصرة.