تعتقد النخبة الروسية أن ما يجري في القوقاز، واندلاع الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، حلقة من مسلسل إشعال النار حول بلادها من جميع الجهات.
وتذهب تحليلات روسية إلى تحميل أميركا المسؤولية، إذ تعتبر أن هناك مشروعاً أميركياً يستهدف دولاً في الفضاء الروسي بهدف “إعادتها إلى الهمجية”.
وفي تقرير لـ”سفربودنايا بريسا” فإن الصراع في قيرغيزيستان جزء من مسلسل لمحاصرة روسيا يشمل احتجاجات بيلاروس، والوضع في أوكرانيا ثم أخيراً حرب ناغورنو قره باغ.
ويشرح ليونيد كروتاكوف، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية، أن “الصراعات بدأت في الأماكن التي غادرتها روسيا. وهذا يعتبر تقويضاً لكل من منظمة شنغهاي للتعاون، ومشروع الحزام والطريق الصيني”. وها نحن “نرى عودة تركيا وإيران إلى منطقة القوقاز”.
في النقاط الساخنة المذكورة كلها تصرفت روسيا بوسائل مختلفة، وحققت مكاسب ولو بقيت مسائل عدة عالقة. ونبدأ من القوقاز في 2008 عندما حاصرت جورجيا وانتزعت جمهوريتي ابخازيا وأوسيتيا. الجمهوريتان تعتبرهما جورجيا تحت الاحتلال الروسي، وقد حظيتا باعتراف عدد من الأنظمة في فنزويلا ونيكاراغوا، وكان النظام السوري سباقاً في هذا الاعتراف، ما أدى إلى قطع جورجيا علاقاتها معه.
وفي أوكرانيا ردت روسيا على ما اعتبرته تدخلاً غربياً أميركيا،ً بضم القرم وجعله جزءاً من أراضيها، ولا تزال المشكلة مفتوحة بشأن هذا الإقليم ومعه قضية شرق أوكرانيا. وعندما اندلعت الاحتجاجات ضد الرئيس لوكاشينكو في بيلاروس، حرصت موسكو على دعمه ومنعه من السقوط وجهزت قوات خاصة للتدخل في حال تطلب الأمر ذلك.
وفي هذه الأثناء توسع الحضور الروسي في مناطق خارج الفلك التقليدي. في سوريا أصبح التدخل العسكري عاملاً أساسياً حاسماً، كذلك في ليبيا، واستعيدت علاقات تعاون تاريخية مع مصر والجزائر، ما أتاح عودة مؤثرة للإمبراطورية إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط.
ليس دقيقاً الحديث عن محاولة تطويق أميركية كما يقول ساسة روس، بقدر القول بمعارك نفوذ تدخل فيها العوامل التاريخية والقومية والجيواستراتيجية، تحقق خلالها موسكو مكاسب بقدر ما تتعرض لضغوط.
لكن شيئاً جديداً طرأ على المشهد هو ما يستحق أن يثير قلق موسكو. وهذا الجديد هو انخراط شريكيها في سياستها الإقليمية، تركيا وإيران، في المعركة القديمة حول ناغورنو قره باغ، وما يمكن أن يفرضه هذا الانخراط من تبعات على موقع روسيا ودورها في منطقة القوقاز.
وليس إصرار موسكو على تسوية سلمية للنزاع، سوى انعكاس لقلقها من انخراط تركيا في المعركة إلى جانب أذربيجان، بحيث بدا وكأنها تقود الحرب مباشرة، مع ما يمكن أن يثيره هذا الانخراط من تداعيات في إيران، وما يفرضه من تورط روسي مباشر إلى جانب الحليف الأرميني.
والواقع أن تركيا أردوغان لم تكف عن منازعة روسيا في مواقع عدة، للروس مصالح فيها، في سوريا يبني الأتراك مناطق نفوذ خاصة بهم، وفي ليبيا يدعمون حكومة طرابلس في مواجهة الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، حليف موسكو، وفي شرق المتوسط يثيرون في كل يوم نزاعات مع اليونان وقبرص اللتين تتمتعان بعلاقات وطيدة تقليدياً مع روسيا.
تمكنت روسيا من إيجاد تفاهمات مع تركيا في النقاط المذكورة، ولو بالحد الأدنى، وبقي إطار أستانا شكلاً للعلاقة في سوريا، لكن “الهجمة” التركية في القوقاز لا يمكن أن تأخذ مداها من دون تداعيات ستجبر موسكو على اتخاذ إجراءات تضعها في مواجهة مباشرة مع أنقرة. فموسكو ترتبط بمعاهدة دفاعية مع أرمينيا، ونظام آل علييف في أذربيجان ليس بعيداً منها، وهي إذ تتمسك بتسوية سلمية للنزاع، لا تنزع من أذربيجان سيادتها على ناغورنو قره باغ، إلا أنها مع أرمينيا تشددان على ضمان حقوق الأرمن في الإقليم، وهذه قضية يتفق عليها المجتمع الدولي، الذي يرى في الاندفاعة التركية تحريضاً لأذربيجان على الاستمرار في الحرب.
وفي إيران تسود مخاوف ذات طابع مختلف من الدور التركي. وقال الرئيس حسن روحاني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، إن الصراع يهدد بحرب كبيرة في المنطقة، وإيران لن تتسامح “مع أي دولة ترسل إرهابيين إلى حدودها”.
كان روحاني يُلمح إلى قيام تركيا بإرسال مقاتلين سوريين إلى أذربيجان، وهو ما حذرت منه موسكو أيضاً. وكما في موسكو، تسود في طهران مخاوف من التصعيد التركي واستمرار الحرب رغم الهدنة التي رعاها الروس. فباكو رفعت بدعم تركيا شعار تحرير الإقليم الأرمني، وسوف يعتبر تراجعها عنه هزيمة للطرفين. إلا أن استمرار القتال سيثير مشكلات كبرى لإيران، التي تربطها علاقات جيدة بأرمينيا. ففي إيران ينتمي أكثر من ثلث السكان إلى القومية الأذرية ذات الأصول التركية، وتخشى السلطات تنامي النزعة القومية في أوساط هؤلاء، إلى درجة منع التدريس بغير اللغة الفارسية. وفي حال تصاعد المعارك قد تتهدد الأوضاع الداخلية الإيرانية، ما يزيد في الأزمات التي يعانيها النظام الديني.
إنه الامتحان الأصعب للمنطقة القوقازية ولروسيا تحديداً. ففوز تركيا سيُعد بمعنى ما انتصاراً لحلف الأطلسي وإضعافاً لإيران، ومزيداً من الحصار لروسيا، وصمت روسيا إذا تعدت الحرب حدود ناغورنو قره باغ ووصلت إلى أرمينيا، سيكون نهاية لحضورها في كل القوقاز، أما دخولها الحرب فربما يشعل حرباً عالمية، يكثر الحديث عنها، تحاول موسكو تجنب الوصول إليها. إن القوقاز مأزق لسكانه وقواه، وهو الآن ساحة امتحان لروسيا خصوصاً، ولدولتي إيران وتركيا في ختام مشروعاتهما الإقليمية التوسعية.