حقيقة لا يوجد تعريف جامع مانع لمعنى الأسطورة، حتى بين المتخصصين فيها، مثل الأنثروبولجي الفرنسي الأشهر “كلود ليفي سترادس” (1898 – 2009)، ولكن يمكن القول بصفة عامة إنها قصة خيالية، وأحياناً ملحمة كاملة، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون للكثير منها جذر واقعي يتعلق بحدث ما أو بطل معين، وعادة ما تكون الأسطورة إجابة أولية لأسئلة الوجود الكبرى، مثل خلق الكون والإنسان، أو مصدر الخير والشر، وهي أسئلة أثارتها وأجابت عليها الأديان والفلسفات والعلوم، كل من زوايته ومنهجه.
فالأسطورة هي الإجابة الأولى أو محاولة الإنسان الأول تفسير ما حوله من ظواهر تؤثر فيه ولا يفهمها، أو ألغاز لا يستطيع لها حلاً مثل لغز الموت والحياة.
وهكذا، وبالرغم من أن التقدم العلمي أجاب على معظم الأسئلة التي كانت تشغل ذهن الإنسان في ما يتعلق بظواهر الطبيعة، إلا أن الألغاز الـ “ميتافيزيقية” الكبرى مثل مسألة ما بعد الموت أو أصل الأخلاق مثلاً، بقيت من دون إجابات قاطعة، وتولى الدين والفلسفة محاولة الإجابة على مثل هذه الأسئلة، أما العلم فهو غير قادر في النهاية على الإجابة على مثل هذه الـ “متيافيزيقية”، بالرغم من أن معظمها يدور حول ألغاز الوجود الكبرى.
وبالرغم من أن الأساطير انقرضت كمصدر لإجابات الأسئلة الكبرى، حين كانت وظيفتها الرئيسة في فجر التاريخ الإنساني، إلا أن وظيفتها الرمزية لم تنته أبداً، بخاصة في مجالات الأدب والفلسفه لاستنباط المعنى والدلالة من هذه الأسطورة أو تلك، وها هي الشاعرة الأميركية لويز غليك تفوز بجائزة نوبل للآداب لعام 2020، مستخدمة الأسطورة بشكل مكثف في أشعارها، بل إن بعض الأساطير أصبحت جزءاً لا يتجزأ من كثير من الأديان البشرية الحيّة، ناهيك عن تلك التي اندرست. فالأسطورة في النهاية ليست خرافة أو حكاية خرافية، بالرغم من أنها تشترك أحياناً مع الخرافة في الخيال والمبالغة أو التهويل، إلا أن الفرق الرئيس بينهما هو أن الأسطورة لها مغزى وهدف توجيهي أو إرشادي، بعد أن انتهت وظيفتها التفسيرية الأولية، بينما الخرافة في النهاية ليست إلا حكاية تروى ضمن فولكلور شعبي معيّن، ليس من الضروري أن يكون لها غاية أو مغزى، فشتان بين حكايات الجن والعفاريت ورحلات السندباد البحري مثلاً، وأسطورة “جلجامش” أو “صندوق باندورا”، أو سارق النار “بروميثوس”، ولكن هذه مسألة لها موضوع آخر من النقاش ليس محله هنا. الأسطورة إذاً باقية في الفن والأدب والفلسفة كدلالات رمزية للمعنى، ولكنها، أي الأسطورة، تتخذ في السياسة أشكالاً جديدة تبدو ظاهرياً أبعد ما تكون عن الأسطورة في شكلها التقليدي، ولكن الجوهر في النهاية واحد، ونعني بذلك التحول من الأسطرة المباشرة إلى الأدلجة، فالأيديولوجيا، وبغض النظر عن معانيها المختلفة، سواء القول بأنها وعي زائف كما الـ “ماركسية”، أو القول بأنها تعبير فكري عن مرحلة تاريخية معينة، أو نظام اجتماعي معين، قائمة في جذورها على أسس أسطورية حين التعمق في تحليلها، مثل الانطلاق من حادثة معينة وإخراجها من سياقها التاريخي لمنحها بعداً “ميتافيزيقياً” معيناً، بعد تهذيبها وتنسيقها، أو التركيز على شخصية تاريخية محددة، وجعلها أقرب ما تكون إلى آلهة الرومان أو الإغريق، أو أبطال الإلياذة والأوديسة و”ملحمة جلجامش”، أو سيرة سيف بن ذي يزن، أو حتى أبو زيد الهلالي، وفي ذلك يقول كلودليفي ستداوس في كتابه “بنية الأساطير”، “لا شيء يشبة الفكر الأسطوري أكثر من الأيديولوجيا السياسية. وقد تكون هذه حلت محل الأولى فحسب ضمن مجتمعاتنا المعاصرة”. وفي تقديرى المتواضع، فإنه محق في ذلك إلى حد بعيد، فخيط رفيع جداً يفصل بين الحكاية الأسطورية وبين المقولة الأيديولوجية، مثل ذلك الخيط والشعرة التي يقولون إنها تفصل بين العبقرية والجنون. وسواء كنا نتحدث عن السياسة العالمية أو السياسية العربية، فإن الأسطرة تتسرب إليهما من منافذ عدة، مثل أسطورة ديفيدوغوليات “داود وجالوت” التوراتية، التي تصور انتصار “الحق” مهما كان ضعيفاً على “الباطل” مهما كان جباراً، مع أخذ نسبية الحق والباطل هنا في أمور سياسية كثيرة، حين يحتدم الصراع بين الفرقاء، فيلجأ إلى “أدلجة” هذه القصة وغيرها لتحفيز النفوس وشحن المعنويات. وإذا كانت الأسطورة تتسرب بشكلها الأيديولوجي المعاصر إلى السياسة العالمية وممارستها من منافذ عدة، فإن السياسة العربية وممارستها تشكّل ما يشبه “إسفنجة” تمتص الأسطورة بشكليها التقليدي والأيديولوجي المعاصر، كما لو أنها ماء منسكب.
فلو أخذنا مثلاً “حديث المؤامرة” في الخطاب السياسي العربي، أو لنقل بدقة أكبر، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وكيف أنها، أي المؤامرة، تحولت إلى أسطورة سياسية عربية تفسر وتعطي أو تضفي المعنى على أي حدث سياسي، بعيداً من التحليل السياسي الموضوعي، حتى لو كان جلياً جلاء الشمس في يوم صيف حار من أيام الصحاري العربية.
هوس” المؤامرة”، أو حتى نستطيع تسميته “فوبيا المؤامرة”، في العقل السياسي العربي يمتد عميقاً في الذاكرة والتاريخ العربي، بحيث أصبح جزءاً من نسيج هذا العقل إن صح التعبير، فمنذ أحداث الفتنة الكبرى أو التمرد على خلافة عثمان بن عفان (656 – 661)، وحديث المؤامرة جزء لا يتجزأ من الخطاب السياسي العربي، بل ويعود حديث المؤامرة إلى أبعد من ذلك، وإلى أحداث سقيفة بني ساعدة لدى البعض، وبخاصة لدى شيعة علي بن أبي طالب الذين رأوا في نتاجها “مؤامرة” لإخراج علي من الخلافة، وتولية أبي بكر الصديق، بمثل ما رأوا في تولية عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان امتداداً للمؤامرة ذاتها، ففي “الفتنة الكبرى” وضعوا كل اللوم خلال أحداث تلك الفترة على شخصية أسطورية هي شخصية “ابن السوداء” أو “عبدالله بن سبأ اليهودي” اليمني الذي أسلم حديثاً، ثم بدأ بنسج خيوط مؤامرة تستهدف الكيان الإسلامي برمته.
بطبيعة الحال، فإن التحليل الموضوعي لتلك الفتنة وغيرها من الثورات والحركات في تاريخ الإسلام، سيبيّن أسبابها ودوافعها وجذورها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل وحتى “القبلية”، ولكن “الأسطرة” جعلت من شخص واحد مشكوك في وجوده التاريخي أساساً، السبب الأوحد، مع تضخيم دوره في أحداث تلك الفترة، وكأنه أحد “التيتان” أو الجبابرة في الأساطير الإغريقية، القادرين على فعل المعجزات، وهم ذات “الجان” الذين تُحدثنا عنهم الأساطير القصصية الإسلامية، والتي تقول إنهم سكنوا الأرض قبل خلق الإنسان، فعاثوا فساداً فيها، وهو ذات ما تقوله أساطير الإغريق حول “التيتان”.
ومنذ “أسطرة” الشخصية “السبئية” ودورها في الفتنة الكبرى، والعقل العربي الإسلامي ثملٌ بحديث المؤامرة، غالباً لأسباب سياسية مؤدلجة دينياً حتى هذه اللحظة، سواء بوعي أو من دون وعي، فالخلافة الراشدة سقطت نتيجة مؤامرة أموية، والعباسية بفعل رجل أسطورة شبيه بابن السوداء، هو ابن العلقمي، والخلافة العثمانية سقطت نتيجة مؤامرة ماسونية – يهودية، وفلسطين ضاعت نتيجة مؤامرة يهودية استعمارية شارك فيها بعض العرب.
أما المؤامرة اليهودية الممتدة عبر الزمان، فهي الموضوع الأثير لدى العقل السياسي العربي الديني منه وغير الديني، سواء بالصبغة الأسطورية التقليدية أو الصيغة الأيديولوجية المعاصرة.
صحيح أن المؤامرات والدسائس و”أمر دُبر بليل”، هي وسائل وأساليب ممارسة في العمل السياسي، ولكنها تكون ذات أجل معين، أما المؤامرة في الثقافة السياسية العربية فهي أمر مستدام وركيزة من ركائز الخطاب السياسي العربي والإسلامي، من دون أخذ في الاعتبار لهذه الحادثة، أو تلك العوامل الموضوعية الوقتية، فالصهيونية مثلاً، والتي حلت محل اليهودية في الخطاب العربي والإسلاموي المعاصر، وكذلك الاستعمار والإمبريالية والغزو الفكري و”الترصد” لكل ما هو عربي وإسلامي وغيرها، كلها أمور تنضوي تحت مظلة المؤامرة المستدامة التي لا تهدأ، ولعل في خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول “أزمة الإسلام” أبرز مثال على ذلك، فالرجل كان يتحدث عن “قيم” الجمهورية الفرنسية، وكيف أن الإسلاموية أو الإسلام السياسي الفرنسي يشكل خطراً عليها، ولم يتعرض للإسلام ديناً بأي سوء، إلا أن رد فعل غاضب انبرى له في عالم المسلمين، متهماً إياه بأنه جزء من مؤامرة كونية تستهدف الإسلام ككل.
“أسطرة” الأحداث والأشخاص بصورة مباشرة قديماً، وأدلجتها حديثاً، والنتيجة واحدة في أي حال، هي جزء من أزمة عالم العرب تحديداً، والتي إن يتغلبوا عليها وفق خطاب جديد نابع من عقل جديد، فإن “شيزوفرانيا” جماعية حادة ستكون هي النتيجة، أو هي النتيجة “المعيشة” حالياً، حيث الجسد يعيش “هنا”، والعقل يعيش “هناك”، والمطلوب “هنا والآن”، نقد هذه الـ “شيزوفرانيا” كمقدمة للتخلص من حال مرضية لم تعد تطاق.