الأخبار- عباس بوصفوان
في الجزر الصغيرة، لا يحكم أبناء عيسى بن سلمان آل خليفة، ويتفرّد الابن البكر، حمد، وحده بالقرار، محاطاً بجناح الخوالد النافذ، وبالنخبة العسكرية التي أنجبها الجيش، حيث كان الملك يتدرّب على الحكم، ويَعدُّ نخبته على مدى ثلاثة عقود، حين كان وليّاً للعهد، مهمّشاً من القرار الفعلي الذي كان يحوزه رئيس الوزراء، خليفة بن سلمان آل خليفة. وقد أُبعد رئيس الوزراء عن القرار منذ وصول الملك إلى السلطة في آذار/ مارس 1999، على عكس ما يُروّج الإعلام الغربي من نفوذ واسع للرجل المعروف بتشدّده؛ فلم يكن لرئيس الوزراء دور يُذكر في تحوّل البحرين من دولة إلى مملكة في 2002، علماً بأن هذا التحوّل يُعدّ أحد أبرز معالم حكم حمد.
ويُفترض، الآن، أن ينتقل العرش من الملك إلى نجله البكر، وليّ العهد سلمان، ليقوم الأخير باختيار الطاقم الذي يساعده في إدارة السلطة. لكن أسئلة كثيرة طالما أثرتُها حول الدعم الكبير الذي يحظى به النجل الرابع من الذكور للملك، ناصر، في مقابل إصراره على إبعاد وليّ عهده عن المؤسسة العسكرية، صاحبة التأثير الطاغي في البلاد. في لحظة 2011 الفارقة، تَبدّت تلك الاستفسارات على نحو أكثر وضوحاً. وكتبتُ حينها مقالات عديدة عن «الصراع المكتوم: مستقبل ولاية العهد في البحرين»، وتساءلت عن سبب إبراز الملك لناصر، وتصويره بمثابة سيف والده الضارب، فيما يتوارى وليّ العهد عن المشهد، ووضعت عدة سيناريوات، ليس من بينها إطاحة وليّ العهد، لتفادي الصراع الحادّ في أجهزة الحكم، والحرج مع الإقليم، لكنني افترضت أن سلطات وليّ العهد، إذا ما تَمكّن من الوصول إلى السلطة، ستكون مُقيّدة بفعل نفوذ ناصر.
والمعضلة المحتملة أمام وليّ العهد، سبق أن ظهرت في أبو ظبي، حيث انتقل الحكم من الراحل الشيخ زايد إلى حاكم أبو ظبي على الورق، خليفة، وأخيه محمد بن زايد الذي عُيّن ولياً للعهد بدلاً من نجل خليفة، وبات حالياً المتصدّي لإدارة شؤون الحكم، ويُعدّ نجله ولياً للعهد. وبالتالي، «فإن خيار مملكة بحرينية برأسين أو شيء من ذلك جُرّب في دبي وأبو ظبي، وقد ضَمِن للعائلة الحاكمة تماسكها، لكنه قد لا يضمن لسلمان تعيين ابنه عيسى في ولاية العهد»، كما كتبتُ في 2011.
خلال السنوات الفائتة، جرت مياه غزيرة تحت الجسر، اعتقدنا أنها غَيّرت المشهد، لكن هذا الاعتقاد يتزعزع من جديد، لنعود إلى المربّع الأول؛ فمنذ 2013، بدا أن وليّ العهد يستعيد نفوذه، حين عُيّن نائباً أوّل لرئيس الوزراء. واللافت أن الملك أشار في خطابه، أمس، إلى أن رئاسة مجلس الوزراء منوطة بعمّه خليفة بن سلمان ونجله ولي العهد سلمان. هذه إشارة تَصدُر للمرة الأولى، وربّما هذا أمر آخر مهمّ في خطاب أمس. بيد أن نفوذ وليّ العهد في مجلس الوزراء لا يَحلّ إشكالية ضعفه في المؤسسة العسكرية النافذة في البلاد، حيث يتبوّأ ناصر موقعاً فاعلاً فيها، ويرأس الحرس الملكي، ونحن نعرف أن ولاء الضبّاط لا يتمّ بناؤه إلّا عبر الممارسة اليومية. ويعاب على وليّ العهد من طرف ضباط نافذين، لا يرونه جديراً برتبة مشير، ويرون ناصر مؤهّلاً أكثر من الناحية العسكرية.
عمل الملك على تبريد هذه المخاوف بعض الشيء مطلع العام الجاري، حيث عمد إلى تعزيز حضور وليّ العهد في الجيش، بتشكيل لجنة تنفيذية عليا في «مجلس الدفاع الأعلى»، يرأسها وليّ العهد، رأيتها أولى الخطوات ليكون النجل الأكبر للملك في موقع القرار العسكري، وإن كانت تساؤلاتي من دون جواب عن سبب إقصائه من المؤسسة العسكرية طوال عقدين مَضَيا. وما دام وليّ العهد عالي المقام في «الدفاع»، فإن ناصر سيظلّ غير قادر على مزاحمة أخيه، وتشكيل مركز قوة منافس، بالنظر إلى أن الطرف المهيمن على الجيش سيتمكّن من فرض قراراته.
تلك القراءة تهتزّ من جديد، وتتعرّض للتحدّي، وكأننا عدنا إلى لحظة 2011، حيت التساؤلات تتصاعد عن دوافع استمرار الملك في تعزيز موقع نجله ناصر. فلم تمضِ بضعة أشهر على تعزيز مكانة وليّ العهد في الجيش، حتى اتخذ حمد، في تموز/ يوليو 2020، قراراً لافتاً بتعيين ناصر أميناً عاماً لـ»مجلس الدفاع الأعلى»، وعبد الله بن أحمد، زوج بنت وزير الديوان الملكي، خالد بن أحمد، القائد الفعلي لجناح الخوالد، نائباً لأمين عام مجلس الدفاع الأعلى. وبذلك يبني ناصر وحلفاؤه الخوالد تغلغلاً مستداماً في المؤسسة العسكرية، التي يديرها المشير خليفة بن أحمد، شقيق وزير الديوان الملكي. ويُعدّ ناصر الأقرب إلى هذا الجناح، مقارنة بأخيه غير الشقيق وليّ العهد.
التبجيل المتجدّد والمستمرّ الذي يظهره الملك لنجله، والذي كرّره أمس، يؤكّد وجود نهج مدروس لتعزيز نفوذ ناصر. وإذا مضى الملك في السلوك ذاته، فإن الاحتمالات تتأصّل لتحوّل ناصر إلى مركز قوة حقيقي، لا يمكن الملكَ القادم، سلمان، إلا أن يأخذه في الاعتبار. وربّما لا يلعب الإقليم لصالح ناصر؛ فهو متزوّج من بنت حاكم دبي محمد بن راشد، وربما لن يسمح آل نهيان بتغلغل آل مكتوم في البحرين.