شادي علاء الدين – أساس ميديا
انفجرت في وجوهنا إطلالة سعد الحريري الأخيرة في برنامج “صار الوقت” مع الإعلامي مارسيل غانم، كما ينفجر لغم قديم من مخلّفات الحرب العالمية الثانية. ظهر الرجل وكأنه فقد كلّ شيء دفعة واحدة. لم يترك لنا أيّ طلل لنبكي عليه ونناجيه.
أصرّ أن يكون خارجاً من كلّ شيء وعلى كلّ شيء من السياسة إلى الهيئة والمظهر. بدا وكأنه قد تقمّص بنية الكهل التي جاء بها إلى سدة الرئاسة وارتداها في العام وفي الشخصي، ولم يعد قادرا على التصرّف إلا انطلاقاً من ملامحها وصفاتها.
أخرج من عباءته كلّ الشعارات المستهلكة التي بليت من كثرة الاستعمال محاولاً أن يسوّقها على أنّها جديدة من الشركة مباشرة.
سحب من القبعة مبادرة ماكرون متجاهلاً السبب العميق والمباشر الذي أدى إلى فشلها، والمرتبط باستحالة الجمع بين متطلّباتها الإصلاحية في حدودها الدنيا، وبين السيطرة المطلقة لحزب الله على البلاد أمنا وسياسة وفساداً واقتصاداً.
لا نفهم لماذا كلّ هذه المجّانية، أو ماذا يعني في لحظة البلد الحالية أن يكون سعد الحريري مرشحاً طبيعياً لرئاسة الحكومة من دون منّة من أحد كما كرّر
لم يعرف الحريري بعد، أنّ ما يروّج له من ضرورة أخذ موضوع السلاح بواقعية لم يعد كلاماً سياسياً أو تسووياً، بل يعني الشراكة في الحرب ضد أميركا والعرب والمنطقة.
لم يخبره مستشاروه خلال المقابلة أنه بينما كان يدلي بهذه التصريحات، كانت الخزانة الأميركية تفرض عقوبات على 18 مصرفاً إيرانياً بهدف إخراج إيران من المنظومة المصرفية المالية العالمية وخنقها.
التفاهم مع السلاح لم يعد شغلاً سياسياً في هذه اللحظة، بل بات شراكة مباشرة في إخراج البلد من لحظة العالم.
لا أحد طلب من الحريري أن يفتح مشروع مجابهة، لكنّه تبرّع سابقاً، ويتبرّع الآن بأن يكون حارس السلاح، ومخازن الصواريخ. يعتقد أنّ وجهه البريء في سياقه الجديد، وما أعاد توظيفه من مفاهيم الطيبة والبراءة، سوف تعمي أنظار الأقمار الاصطناعية، ومنصات المراقبة الدولية من رؤية مشهد تحويل البلد إلى بؤرة لتبييض الأموال، وتجارة المخدّرات، وتخزين المزاد المتفجّرة.
لا نفهم لماذا كلّ هذه المجّانية، أو ماذا يعني في لحظة البلد الحالية أن يكون سعد الحريري مرشحاً طبيعياً لرئاسة الحكومة من دون منّة من أحد كما كرّر.
سلوك حزب الله، وواقع العقوبات المتمادية والمتصاعدة، وما باتت تشكّله من ثابت أساسي في السياسة الأميركية، مما لا تلغيه أو تحوّره مجريات انتخابات رئاسية، حوّل منصب رئاسة الحكومة إلى نوع من الفخّ السياسي يصطاد فيه الحزب الشخصيات السنية التي تقبل أن تحمل عنه ما لا يريد أن يحمله.
الحكومة الآن ليست سوى التتويج الشخصي لصورة سعد الحريري عن نفسه ولا شيء آخر. يريد الرجل أن يحتلّ هذا المنصب ليتحدّث مع نفسه وحسب، لأن لا أحد سيتحدّث معه أو مع البلد في حال شكّلت حكومة بالمواصفات التي يقبل بها حزب الله.
يستغلّ الحزب كلّ هذه السياقات لمحاولة تركيب مؤتمر تأسيسي يعيد إنتاج البلد ككلّ على هيئة مصنع صواريخ، ولكن كلّ هذه الطموحات الإلهية لا تزال غير شرعية وترتدي ثوب الغلبة
أليس هذا كله طوراً عونياً في التفكير والسلوك والممارسة، يقوم على منطق التقاعد المريح والدائم عبر السكن في المنصب. لقد حقّق الجنرال عون آماله حين صار رئيساً، و لم يعد يهمّه أيّ شيء على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، صار يتصرّف كأن احتلاله لهذا المنصب قد أعفاه من المسؤوليات تماماً، وصار رمزاً متحفياً مقدساً يصلح للتبريك، وليس للحركة والعمل.
حال الحريري مماثل تماماً إذ إنه يريد أن يتجمّد في موقع رئاسة الحكومة، ويصبح مرجعاً ورمزاً انطلاقاً منها، عبر الكفّ عن الحركة والعمل. يريد أن يحوّله إلى مقبرة جماعية تدفن آمال وطموحات اللبنانيين، وتبقي السلاح حاكماً ومرجعاً وحيداً ونهائياً لكلّ شيء في سبيل أن يكون صاحب اللقب.
تصرّف الجنرال عون مع منصب رئاسة الجمهورية وكأننا في نظام ملكي، وكأن الرئيس سيبقى في المنصب الى أن توافيه المنيّة، وتعامل معه على أنّه صار ملكية خاصة، فراح يسعى إلى توريثه وكأنه يريد أن يبقى فيه إلى الأبد حياً أو ميتاً.
ليس هذا المنطق سوى دفن للنظام البرلماني والديمقراطي، وللسياسة كلّها، خصوصاً بعد أن فكّكت العقوبات بنية الاقتصاد، وتناسل تحت ظلالها نوع غير مسبوق من الانفلات الأمني العام.
يستغلّ الحزب كلّ هذه السياقات لمحاولة تركيب مؤتمر تأسيسي يعيد إنتاج البلد ككلّ على هيئة مصنع صواريخ، ولكن كلّ هذه الطموحات الإلهية لا تزال غير شرعية وترتدي ثوب الغلبة.
ما يهديه سعد الحريري للحزب حالياً، هو تحويل لحظته الاستثنائية، التي مهما طالت لن تكون سوى لحظة عابرة، إلى واقع نهائي للبلاد. كلّ ذلك مقابل أن يكون الرئيس الثابت للحكومة التي صارت وظيفتها الأساسية أن تكون المخزن الشرعي لأمونيوم الحزب وصواريخه.