تلقي المواجهات العسكرية الآن بين أرمينيا وأذربيجان الضوء على أهمية منطقة القوقاز والتي تحكمها اعتبارات تاريخية وعرقية وسياسية معقدة استدعت أطراف إقليمية وكبرى للتدخل بها مثل روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وربما إسرائيل، بل يمتد الأمر ليشير إلى بزوغ ملف خلافي مستقبلياً بين إيران وتركيا ليضيف إلى المساحات التي تتنافس وتتعارض فيها مصالحهما، ولا يتم ذلك بالفعل بعيداً من التفاعلات مع روسيا التي تقترب في هذا الملف من إيران وتتعارض مع الموقف التركي. الصراع المندلع حالياً بين أرمينيا وأذربيجان، يبين كذلك كيف لا تحتمل إيران وجود صراع وعدم استقرار على حدودها والتي لها تأثيرات تمتد إلى الأمن القومي الإيراني نظراً للامتدادات العرقية لسكانها في داخل الدول المجاورة، في حين أنها تنتهج سياسة إقليمية تؤجج الصراعات على حدود الدول الأخرى بالشرق الأوسط كأزمة اليمن وسوريا والعراق.
ومن جانب آخر، يلقي الصراع المشتعل في القوقاز الضوء على سياسة تركيا التي أضحت تتبع بشكل رسمي تشكيل الميليشيات ونقلها لمناطق الصراع سواء في المنطقة العربية كما يحدث في سوريا وليبيا أو في آسيا الوسطى والقوقاز حالياً، بما يشير إلى تهديدات جديدة غير تقليدية منبعها تنقل ميليشيات إرهابية ذات مهام محددة من دولة لأخرى، تقودها تركيا.
فحين اندلعت مواجهات عسكرية بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو قره باغ، وكالعادة استخدم النزاع بين البلدين والموقف الإيراني منه كما في التسعينيات، على أنه دليل على براغماتية إيران التي تدعم أرمينيا المسيحية في مقابل أذربيجان الشيعية. وهذا دليل على أن تأسيس نظام إسلامي ديني في إيران لا يعنى أن الدين هو المكون الحاسم في علاقاتها، سواء باعتبارها تسعى لتمثيل العالم الإسلامي أو حتى كممثلة للمسلمين الشيعة. ذلك أن هناك اعتبارات عرقية وتاريخية وسياسية تحكم الموقف الإيراني والعلاقة مع أذربيجان تشكل منبعها المصالح والأمن القومي الإيراني.
بالتالي، فنظراً للعوامل المؤثرة في علاقة البلدين معاً، يمكن القول إن إيران ليست مجرد دولة عادية مجاورة لأذربيجان، فهي الجار الجنوبي لها، وتشترك الدولتان في حوالى 618 كيلومتراً من الحدود البرية، كما أن أذربيجان لديها ثاني أكبر عدد من الشيعة في العالم بعد إيران، كما أن البلدين يشتركان في عضوية المنظمات الإسلامية والإقليمية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة التعاون الاقتصادي، لكن كل هذا ليس مؤشراً إلى التقارب بين البلدين من حيث الجغرافيا والدين. هناك عوامل مهمة أخرى تؤثر في العلاقات الحالية بين أذربيجان وإيران.
وحاولت إيران بعد استقلال الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفياتي عام 1991 أن تؤسس علاقات معها، لا سيما أن بعضها كان جزءاً من الأراضي الإيرانية، ومنها أذربيجان التي بها سكان أتراك لكن ذوو ثقافة فارسية، لذا هذه إحدى نقاط التنافس مع تركيا حول تلك الجمهوريات. وتشمل جمهورية أذربيجان الجزء المستقل عن الاتحاد السوفياتى فى حين الجزء الثاني من أذربيجان يقع في شمال غربي إيران. ويشكل الأتراك الأذربيجانيون في إيران جزءاً كبيراً من تركيبتها السكانية بعد العنصر الفارسي حتى أن هناك بعض الشخصيات الأذرية الأصل تولت مناصب هامة في النظام الإيراني مثل المرشد الإيراني الحالي علي خامنئي، لذا ظلت إيران تخشى من أي تحرك قومي يثير ضغط سكانها الأذريين للاندماج مع امتداداتهم العرقية في الجمهوريات المستقلة مثل أذربيجان.
وبعض أشكال الثقافة الأذرية محظورة، لذا حاولت حركة التحرر الوطني في جنوب أذربيجان الانفصال على مدار حوالى 90 عاماً، وتم طرح مطالب الحكم الذاتي القومي الإقليمي أمام الحكام الإيرانيين في الفترات (1908-1909) و (1920)، و(1945-1946)، و(1979-1980).
لهذا فالعامل الشيعي ليس المؤثر في علاقة البلدين، فنظراً لكون أذربيجان كانت جمهورية تابعة للاتحاد السوفياتي، لذا فالعامل الديني ليس مكوناً مؤثراً في سياسات الدولة التي سعت لتشكيل تحالف قوي مع الغرب وإسرائيل بعد استقلالها. وهو ما دفع إيران في بعض الفترات لاحتواء جمهورية أذربيجان والتقرب منها أحياناً لمنع تحالفها مع إسرائيل. ومع ذلك، فعلى الرغم من تطلعات طهران لفرض نفسها كمدافع عن العالم الإسلامي بأسره، فإن الشريكين الجيوسياسيين الرئيسيين لطهران في المنطقة هما روسيا وأرمينيا. لذا فحينما اندلعت المواجهة العسكرية مع أرمينيا اندلعت داخل أربع مدن إيرانية تظاهرات صغيرة دعماً لأذربيجان، وأصدر أئمة صلاة الجمعة في أربع مقاطعات يغلب عليها الطابع الأذري، وهي أذربيجان الغربية وأذربيجان الشرقية وأردبيل وزنجان، بياناً مشتركاً لدعم أذربيجان، وقد قابلت قوات الأمن الإيرانية التظاهرات بالقمع.
وهناك أيضاً البعد الاقتصادي الذي يتحكم في علاقة إيران وأذربيجان، ومعها التعاون الروسي الإيراني بشأن منطقة القوقاز، والتعاون بشأن نفط بحر قزوين، لذا فلا تنظر إيران وروسيا بارتياح للتعاون بين أذربيجان وإسرائيل والغرب بشكل عام والذي قد تعتبره مهدداً لمصالحهما في تلك المنطقة.
أما عن موقف إيران من الصراع في قره باغ، فبداية الصراع ترجع إلى التسعينيات بعد استقلال الجمهوريات في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي، فأعلنت كل من أرمينيا وأذربيجان استقلالهما، وأعلن قادة إقليم قره باغ رغبتهم في إقامة جمهورية مستقلة، فاعترضت أذربيجان التي اعتبرت هذا تمرداً وتنسيقاً مع أرمينيا، فاندلع قتال مسلح تم وقفه عام 1994 وتجدد الآن الصراع في منطقة القوقاز التي تتصارع وتلتقي فيها مصالح عدة قوى دولية وإقليمية، ودعت روسيا لوقف القتال على الرغم من قدرتها على إيقافه سواء بالتدخل نظراً لوجود قاعدة عسكرية روسية داخل أرمينيا التي هي عضو معها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، لكن لدى روسيا علاقات اقتصادية مع أذربيجان أيضاً، كما أعلنت تركيا دعمها لأذربيجان التي ترفع شعار شعب واحد في بلدين، لكن في الحقيقة تركيا تعتبر أذربيجان نقطة تسمح لها بالانتشار في آسيا الوسطى، فضلاً عن المصالح الاقتصادية، إذ تريد تركيا أن يكون هناك خط سكك حديدية ممتد لتتحول إلى مركز إقليمي لنقل البضائع إلى جنوب البحر المتوسط. في حين عبرت طهران في البداية عن إمكانية الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان، لكن مع تدخل تركيا لمساندة أذربيجان، باتت تحذر من حرب إقليمية وانتقدت دور تركيا في الصراع الحالي، إذ تشعر إيران بقلق متزايد بشأن انعدام الأمن بالقرب من الحدود التي تشترك فيها مع الطرفين المتصارعين، لذا دعا علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني تركيا إلى المساعدة في حل النزاع بين أذربيجان وأرمينيا بدلاً من تأجيجه.
وهذه الرسائل والتحذيرات الإيرانية تتزايد مع أنباء حول إرسال تركيا مسلحين من سوريا للقتال إلى جانب الجنود الأذربيجانيين. في الوقت نفسه، بدأت تنتشر مقاطع فيديو تظهر معدات عسكرية قيل إنه تم إرسالها من شمال غربي إيران إلى أرمينيا، لكن إيران نفت. وصرح الرئيس الإيراني حسن روحاني أن السلام وأمن المنطقة وإنهاء المعارك العسكرية مهمة جداً لإيران، وأنهم مستعدون لاتخاذ أي إجراء لحل النزاع في قره باغ وفق القانون الدولي، والحدود المعترف بها بين البلدين.
وتعتبر طهران أن التصعيد يزداد بالتدخل التركي خصوصاً مع الهجمات الصاروخية وإرسال تركيا وزير خارجيتها إلى باكو، وسقوط صواريخ وقذائف من قتال ناغورنو قره باغ على الأراضي الإيرانية، حيث أصابت قذائف منطقة سكنية قريبة من الحدود، ورد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أن إيران لن تتسامح مع امتداد الصراع إلى حدودها.
خلاصة القول إن استقطاع روسيا في القرن الـ19 بعض الأراضي الإيرانية وضمها إليها تعد قضية تجاوزتها إيران، خصوصاً أنها نسجت بعد ذلك علاقات مع الاتحاد السوفياتي، لكن ما يهم إيران أن تظل تلك الجمهوريات على حدودها مستقرة وآمنة ولكن ليست قوية خوفاً من أي نزعات انفصالية قد تنشأ نتيجة الامتدادات العرقية لتركيبتها السكانية داخل تلك الجمهوريات، لذا فإن تقييم إيران أنه إذا أصبحت أذربيجان وتركيا حليفتين قريبتين في قتال أرمينيا، فستتعامل إيران مع هذه القضية باعتبارها مساحة لخلاف مستقبلي بين إيران وتركيا تضاف لمصالحهما المتناقضة، كما ستظل علاقة إيران بأرمينيا جزءاً مهماً لاستراتيجيتها لمواجهة أي تحالف أذربيجاني- تركي.