الحدث

السياسة بنكهة كورونا! كل ما زاد على حده ينقلب إلى ضده

مناصرون لترمب يطلقون هتافات ضد مناصرين لبايدن أثناء تجمعهم خارج مكان انعقاد مناظرة نائب الرئيس في يوتاه (رويترز)

يعرف العامة والخاصة أن المعلومات الكثيرة مثلما أن تكون قليلة، إذ كل ما زاد على حده ينقلب إلى ضده. ففي الزمن السيبراني، حيث كل شيء ينساب في الفضاء، يسبح في الهواء كما كورونا، يغرق البشر بأمواج متتالية في محيط المعلومات الهائج، مما أحاط البشرية بمتتاليات لا تعد، حيث المعلومة تتلو المعلومة، لكن وللأسف بضدها في ذات الوقت، خصوصاً عبر الميديا التي لا تشبع، بل هي كالنار تطلب مزيداً من الأخبار لتشتعل وتشعل. وعلى هذا الأساس تولد الأخبار أخباراً، كما تلد النقود نقوداً. ولما يكن من الصعب وأحياناً شبه مستحيل، نقض الأطروحة التي تجيء مع تدفق الإنترنت مثلاً، فإنها تتحول إلى حقائق أو شبه حقائق، وفي هذا الحال من التراكم تتحول إلى معطيات لا بد أن تؤخذ في الحسبان.

وهذا من بنية عالم سيبراني لم يتشكل بعد، فلم تتضح معالمه الكلية، بل إن وسمه الرئيس، هو التحول والتغير وحتى الانقلاب، حيث تعين هذا العالم، جاء كما أطروحة فلسفية في ما بعد الحداثة، وما طرحته من شكوك وريب في “إلما بعد”. وتجلى ذلك في مجمل نواحي الحياة في العصر السيبراني.

عند هذه الحال كان العالم، لما نجح ترمب، كرئيس للقوة الأعظم في العالم. وعند هذه الحال أيضاً، كان العالم حين أصابته كورونا. فبات هناك عالم “كورنوترمبي”، عالم محكوم بالمرض والجموح السياسي معاً. وما أميركا إلا النجم الساطع، حيث هي القوة الأعظم، ففي عالم يتغير بشكل مضطرد، كما لم يحدث في التاريخ الإنساني، كان فيروس كورونا بمثابة مؤشر فضح حالة الجنون التي تقود العالم.

كان ونستون تشرشل كسياسي محنك، يدرك أن الخيال، كما هو الفعل الرئيس للفنان والشاعر، هو كذلك للسياسي، لذلك عنده “السياسي الجيد، هو ذاك الذى يمتلك القدرة على التنبؤ، والقدرة ذاتها على تبرير عدم تحقق النبوءة”. وفي عالم السياسة اليوم، نجد أن تلك القدرة ترمبية النموذج، أي ليس ثمة قدرة على “التنبؤ”، لكن الغريب هو وجود قدرة بالغة على تبرير “لماذا لم تتحقق النبوءة”، أي تبرير ما لم يكن أصلاً!

حالة التخبط المهيمنة، أشارت إلى عطب المخيال السياسي في الولايات المتحدة، ولهذا وجدنا أن رئيساً كما ترمب، خير معبر عن هذه المرحلة، التي جعل منها فيروس كورونا قنبلةً انشطارية، تتالى فيها المعلومات المتضاربة والأخبار المتناقضة، ويتمظهر الرئيس النموذج فيها، كمذيع يتلو أخباراً ليس إلا، ويرددها العالم كحقائق حيناً، وكتزييف للحقائق في حين آخر. ومن هنا أمسى المرض، كما برنامج تلفزيوني: “بين الحقيقة والخيال”، تحول العلماء فيه إلى كومبارس، فكان “مرض الرئيس” كمشهد هوليوودي، ليس بمعنى أنه زائف، بل على العكس، كان حقيقياً إلى حد الزيف.

ومن هذا المنطلق، فإن أي متابع أو محلل وحتى باحث سياسي، سيلاحظ موت المؤلف، حيث تفتقد السياسة إلى الخيال، فانعدام القدرة على “التنبؤ”، وبالتالي التضارب الذي ينتج تصريحات خبط عشواء. والعجيب أن هذا المس الشيطاني كما نكهة كورونا، أصاب أيضاً القوة المعارضة أو البديل المفترض. لقد أصيب ترمب حقيقةً بكورونا، ولكن قبل ذلك، العالم أصيب بترمب. فبات العالم في حالة من الوضوح الغامض. فلا يمكن مثلاً تبين الحليف من الخصم في عالم اليوم، ولا المصالح والنفوذ عند هذا أو ذاك، حتى أن الاتحاد الأوروبي تمظهر، كما لا يحدث، كاتحاد للشقاق، في وقت جعل المشهد السياسي الدولي من أردوغان، كرخّ يجول في الرقعة، فتداخلت المصالح وبدا أن النفوذ هو الانسحاب من مناطق النفوذ، كما يفعل ترمب كل يوم. ويعلق المعلقون على ذلك، بعدم معرفة هذه الدولة أو تلك للعالم، وبالتالي لمصالحها فمناطق نفوذها.

كان هناك قول شعبي متداول في ليبيا، مفاده “تحب تفهم تدوخ”، وكأن هذا خلاصة قول معظم المتابعين للسياسة الدولية بنكهة كورونا، فتارةً، أن عالم اليوم شعبوي، تتزعمه الشعبوية بقوة لا تضاهى، وتارةً أخرى، نجد أن هذه الشعبوية في اضمحلال، ومن هذا، فإن الخيال السياسي وضع على الرف في عالم مريض. وفي زعم سياسيين كبوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، المصاب الأول بكورونا، أن عالمنا المريض شفاؤه في مرضه، أي بـ “مناعة القطيع”، التي تستعاد اليوم في الولايات المتحدة.

لعل ذلك جعل الشعار الأقوى في عالم اليوم هو “مناعة القطيع”، الذي سيكون قطيعةً مع ما أمسى لا غد له. والخلاصة التي يمكن استنتاجها من ذلك، هي أن الرهان يكون على المجهول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى