بشكل متميز، ومنذ أزيد من نصف قرن، يحضر الروائي نبيل سليمان في الرواية والنقد حضوراً متميزاً ببصمته الخاصة التي وقعها برواياته الأولى منذ “ينداح الطوفان” عام 1970 وأساساً برواية المتميزة والجريئة “جرماتي” عام 1977، من خلال 23 رواية، كان في كل مرة يفاجئ القارئ بنص مغاير، بحفر جديد في السرد، عرفت رواياته محنة المنع والرقابة في بلده سوريا وفي كثير من البلدان العربية، ولكنه لم يستسلم ولم يغير من مواقفه الفكرية والجمالية إلا بما تقتضيه المراجعة الفكرية التي يقوم بها كل كاتب في مسار تجربته الحياتية والأسلوبية والأيديولوجية، بين محطة وأخرى، بما يعمق أطروحاته ويجدد أسئلته الجمالية والفلسفية.
فملحمة “مدارات الشرق” بأجزائها الأربعة، وحدها، تجعل من نبيل سليمان روائياً يجلس في قاعة المحترفين الكبار الذين يعملون على مشاريع روائية كبرى تربط ما بين التاريخ وهوة الواقع والأنظمة السياسية في بلدان المشرق. يذكرني في اجتهاده الروائي المتواصل بدأب الروائي عبد الرحمن منيف، الجد والصبر والتجدد، قال لي يوماً نبيل سليمان، “من لا يصاب بالديسك فهو ليس بكاتب”.
تعمى العقول حين تغيب الفلسفة في الثقافة والأدب
في رواية “تاريخ العيون المطفأة” الصادرة عن داري “ميم” بالجزائر و”مسكيلياني” في تونس عام 2019، يكتب نبيل سليمان موضوعاً فلسفياً جديداً على الكتابة السردية العربية، إنه “ظاهرة العمى”، حيث تبدو الرواية ورشة مفتوحة عن “العماء”، يحضر العظماء من الكفيفين الذين سجلوا حضوراً في الفلسفة والأدب من أمثال المعري وطه حسين، كما تمتلئ الرواية بنقاشات في موضوعات فلسفية (علاقة الرسام الكفيف لطيف بالألوان التي يدركها بالشم) وتقدم لنا الرواية سخاء ثقافياً كبيراً عن الإبداع الذي تناول ظاهرة العمى سينمائياً وموسيقياً وروائياً، على المستوى العربي والعالمي. يقارب الروائي العمى من باب الفلسفة والفن والطب والخرافة.
يبدو لي أن الثقافة الأدبية العربية بشكل عام لا تفلسف الأمور التي تعيشها مجتمعاتها سياسياً أو اجتماعياً أو وبائياً أو لغوياً، فهي تقبلها بشكل ديني أو ترفضها أيضاً بذات الحساسية، أو تنقدها بشكل سياسوي أيديولوجي عام وسطحي.
ما يمكن ملاحظته في تاريخ الرواية العربية بشكل عام هو أن السؤال الفلسفي غائب أو مغيّب أو مخيف أو محارب، ومن هنا تبدو رواية “تاريخ العيون المطفأة” تحفر مساراً جديداً للكتابة السردية العربية المعاصرة.
يبدو التركيز في الكتابة العربية على رواية التاريخ/ الذاكرة الفردية أو المجتمعية أو الوطنية، أو على كتابة الصراع السياسي ومن زاوية أيديولوجية معينة: الغالب والمغلوب، الظالم والمظلوم، أو على كتابة الهواجس الفردية تتجلى في شكل خيبات أو انتصارات دونكيشوطية كازانوفية، أما الغائب الأكبر فهي الرواية المؤسسة على السؤال الفلسفي العميق الذي يحفر في مشكلات الخير والشر والخلود والموت والمرض والهجرة والوجود واللاوجود في زمن ليس هو زمن باسكال أو فولتير أو سبينوزا أو سارتر أو كامو، إنه زمن التكنولوجيا والاتصالات الرقمية والجريمة التكنولوجية والحروب الفتاكة البيولوجية والذرية، وحين أقول “الرواية الفلسفية” فهذا لا يعني كتابة رواية “مفاهيم” باردة ولكن رسم شخصيات تعيش الحياة محملة بعمق الخير والشر والخوف والشجاعة والتأمل والموت.
من هنا حين نقرأ رواية “تاريخ العيون المطفأة” لنبيل سليمان نشعر بفتح باب جديد في الخطاب السردي في العالم العربي وشمال أفريقيا.
وتفرض عليك قراءة رواية “تاريخ العيون المطفأة” استعمال مفاتيح جديدة لتفكيك ألغامها وألغازها المتقاطعة والمتراكمة، فالرواية مؤسسة على مجموعة من الأفخاخ السياسية والاجتماعية بمقاربات فلسفية، تقول العنيف بلغة ناعمة، تكتب الخيانة بمقاربة ذكية.
الرواية الـ23
يفتح نبيل سليمان خطابه السردي في روايته “تاريخ العيون المطفأة” بـ”كان، لا ما كان، وغير الله ما كان”، بما يوهمنا وكأنها حكاية، وهو في ذلك يحاول مراوغة القارئ والإلقاء به في “الزمن الغابر” الموهوم، إنها ليست أكثر من حيلة في الخطاب السردي، فزمن الحكاية في رواية “تاريخ العيون المطفأة” ليس الماضي أبداً، والجغرافيا التي يتحدث عنها ليست سوى الظلال الواقعية لجغرافيا هذا العالم العربي والمغاربي، وما يجري في البلدان الثلاثة التي اختار لها أسماء غريبة: “بر شمس” و”كمبا” و”قمورين” هو ما يجري في العالم العربي والمغاربي اليوم. وما هو واقع بين الأنظمة السياسية الحاكمة في هذه البلدان المتخيلة من صراعات ونزاعات وأحقاد، وما يعيشه مواطنوها من قمع وملاحقات وسجن ومنع وتهجير واغتيالات هو ما تعرفه بلدان الجنوب بشكل عام والبلدان العربية والمغاربية بشكل خاص.
فنبيل سليمان يروي الحاضر بلعبة الحكاية، يقرأ الواقع بإحالة على الماضي للتمويه، وهو في ذلك يستثمر في الإرث السردي العربي والعالمي المرتبط بالـ”فانتاستيك” والعجائبية لقول قراءاته الخاصة من دون مباشرة أو حرفية. ويذكرنا نبيل سليمان في هذه اللعبة ما بين الحكاية والرواية بتجربة الروائي التونسي الكبير محمود المسعدي في روايته “حدث أبو هريرة قال”، ويمكن اعتبار المسعدي هو مؤسس الرواية الفلسفية بامتياز.
وإذا كان المواطن البسيط في هذه البلدان الثلاثة “بر شمس” و”قمورين” و”كمبا” والتي صنعها من مخيلته وصبغ عليها أوصافاً للتمويه من خياله، إذا كان هذا المواطن، يهرب من بلده طالباً اللجوء الآمن في بلد آخر، فإنه لا يكاد يمر وقت قصير حتى يكتشف بأن الثقافة القمعية هي نفسها في هذا البلد وذاك، فلا فرق بين بلد يهرب منه وبلد يستقبله ليوظفه في آلته القمعية أو ليسلطها عليه، وهو ما يجعل الهجرة إلى باريس (حالة مليكة وآسيا) هي الحل المؤقت للاستراحة العابرة من أتعاب الدولة الأمنية المشرقية.
القمع لا جنسية له
عندما نتابع شخصية الشيخ حميد ماء العينين الذي يعيش في بلد كمبا التي تقع على المحيط الأطلسي، وهي ما يوحي وكأننا بموريتانيا، أي في بلد من بلدان شمال أفريقيا، يسافر هذا الأخير إلى فلسطين للمشاركة في حرب تحريرها، يقضي هناك أياماً ثم يعود بكذبة يريد أن يصنع لنفسه من خلالها بطولة، مدعياً أنه أصيب في معركة والحقيقة أن الرصاصة لم تصبه بل مرت بالقرب من أذنه وبها أصبح بطلاً مشهوداً له بدور بطولي في حرب خسرها.
يعيش الشيخ حميد ماء العينين مع زوجة هي فخر النساء التي تصاب بالعمى، وقد تنجب له ثلاثة ذكور هم مولود ومعاوية وعبد المهيمن، وسيكون لكل واحد منهم مسار ومصير غريب.
عندما نتابع مسار شخصية مولود ابن الشيخ حميد ماء العينين، وهو الشخصية المركزية في الرواية والتي من خلالها تُرسم جميع الشخصيات الأخرى تقريباً، في جغرافيات مختلفة في كمبا أو في قمورين في بحثه عن الحرية الفردية والجماعية، ثم في ملاحقته من قبل استخبارات بلاد بر شمس التي يلجأ إليها قادماً من كمبا، ملاحقات تدفع به للهجرة ثانية تاركاً عشيقته أماني في اتجاه بلاد قمورية بحثاً عن ملجأ آمن وحياة مريحة، لكن وكما في بلاد بر شمس سيجد مولود نفسه ملاحقاً وبالأساليب الأمنية نفسها في بلد الاستقبال الجديد، ثم تبدأ مساومته وتوريطه خطوة خطوة في جهاز الاستخبارات، ليُفَرَّغ من حسه الإنساني ومن مواقفه الشريفة، ويدخل حلقة المسخ، فيتحول إلى العين المخبرة على تصرفات وأعمال عشيقته وخطيبته مليكة التي تستقبله في هذا البلد وتكون ذراعه اليمنى، وهي معارضة وطالبة ماجستير في الفلسفة، ويتحول أيضاً عيناً استخبارية على أخيه عبد المهيمن إذ يكلف من قبل من رئيس الأمن اللواء مشرق للسفر إلى اليونان للقائه، ومحاولة النصب له وتشجيعه للعودة إلى قمورية للقبض عليه، في مسار مصير هذه الشخصية مولود ندرك بأننا لسنا في حكاية تروى في الحارة.
عندما نتابع مصير شخصية أماني التي يتعرف إليها مولود في بر شمس ويرتبط بعلاقة حميمية بها ثم يغادرها إلى قمورية ليرتبط بعلاقة أخرى مع صديقتها القديمة مليكة، وكأن الروائي يريد أن يقول لنا: في بلد المخافر والسجون لا يمكن للحب أن ينمو، فالحب طاقة تحرر كبيرة لذا يمارس ضده القمع كما يمارس ضد العمل السياسي أو النقابي أو الجمعوي.
عندما نتابع شخصية معاوية أخ مولود الذي أصبح عقيداً في الاستخبارات، والذي به تنتهي الرواية وقد أصبح أعمى، إذ يلجأ هذا الأخير بالتعاون مع أخيه عبد المهيمن مهرب السلاح إلى إنشاء بنك للعيون، حيث يتم قلع عيون المساجين السياسيين الذين يرمون في مستشفى الأمراض العصبية ببلد كمبا، ويظلون فيها حتى يصبح الواحد منهم مجنوناً حقيقة وقد كان سالماً قبل دخولها، وتباع عيونهم لمن يحتاجها من مرضى وباء العمى المنتشر في البلد بأسعار خيالية.
عندما نتابع أيضاً مصير شخصية مليكة في علاقتها بالجامعة وفي علاقتها بمولود وبالأمن والتي تنتهي مهاجرة في باريس، أو نقرأ شخصية شيماء في علاقتها بالنظام والرئاسة والرئيسة، أو عندما نتابع شخصية عبد المهيمن، أو نحلل شخصية وعد نجم الدين الصمودي أخ مليكة وهو من قادة الإرهابيين وإمام كتيبة الذباحين، حين نفكك شخصية الدكتور لطيف الركني المحامي والرسام التشكيلي الكفيف الذي يطرد من سلك المحاماة، حين نحاول أن نفسر أعطاب هذه الشخصيات جميعها ومعاناتها مع البوليس السري والاستخبارات وشرطة مكافحة الشغب، فإننا ندرك بأننا أمام بلدان تشبه بلداننا وأمام أنظمة ديكتاتورية على شاكلة الأنظمة العربية والمغاربية، الأنظمة الأمنية.
حين ننتهي من قراءة رواية “تاريخ العيون المطفأة” لنبيل سليمان ندرك بأننا لسنا أمام حكاية للتسلية يحكيها “أزاز” حكواتي مقهى ببلاد شمس بر، ولا في حكاية يرويها للتسلية والتندر مريويد حكواتي مقهى المخاليط ببلاد كمبا ولا مغامرة خيالية في حكاية على لسان الحكواتي ابن حليما في مقهى حليما ببلاد قمورية، بل نحن في عمق التاريخ العربي بكل ما يحمله من تناقضات وتفسخات وواقع يومي لمواطن يسعى جاهداً لحياة يحفظ فيها قليلاً من حبه وشرفه وكرامته.