النزاع على الهلال الخصيب

شربل بو مارون-الجمهورية
باحث وأستاذ جامعي

 

الهلال الخصيب، مصطلح أطلقه عالم الآثار الأميركي جيمس هنري برستد على منطقة في الشرق الأدنى على شكل هلال، تمتد من جبال طوروس وجبال زاغروس مروراً بحوضي دجلة والفرات وبلاد الشام وصولًا إلى شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ويحدّها غرباً البحر الأبيض المتوسط. ونتيجة خصوبة أراضيها باتت موطنًا لبعض من أقدم الحضارات البشرية، منذ العصر الحجري الحديث، لذلك عُرفت المنطقة أيضًا بإسم «مهد الحضارات».

رغم كل التمازج لم تكن هناك هوية واحدة، لكن التبادل الاقتصادي وشبه التكامل الجغرافي بين سائر أنحاء هذه المنطقة، أوحيا الى وجود «وحدة ما»، لكن الحروب كانت متواصلة نتيجة تعدّد التصورات والولاءات والديانات.

بقي الوضع على ما هو عليه حتى القرن الثالث، وعلى أثر النزاع الدائم بين الشرق المتمثل بالقوة الفارسية وبين الغرب المتمثل بالإغريق، احتل اليونان المنطقة حتى حدود الهند، وبدأت عملية التوحيد، فكان التوحيد الفلسفي مع اليونان باكتمال العقل والعاطفة والتوحيد التنظيمي مع الرومان من خلال «السلام الروماني»( Pax Romana) فأصبحت شواطئ حوض البحر المتوسط، مع دولها عالماً واحداً سُمّي بالعالم الروماني. وقد تميّز بمشاركة أهل المنطقة في اقامته على أسس الدولة المدنية بقوانينها ونظمها. والتوحيد الاعلى كان التوحيد الديني مع المسيحية.

اما بالنسبة الى اللغات، فالآرامية كانت اللغة المحلية المحكية، واليونانية في الأوساط الفكرية، واللاتينية لغة الدولة الرسمية الاممية.

لكن المسيحية لم تبق وحيدة في الشرق. فالقرن السادس غيّر ملامح هذه المنطقة جذرياً مع قدوم الجيوش الإسلامية من شبه الجزيرة العربية.

فأولاد يُعرب بن قحطان كانوا مجموعة قبائل متعددة الولاءات، متنازعة في ما بينها، انتماؤهم الوحيد الى قبيلتهم، وبسبب طبيعة منطقة الجزيرة العربية الصحراوية، اخذت هذه القبائل طابعًا إنعزاليًا. فالجزيرة العربية لم تعط قبل الأسلام أي حضارة، فأتى الأسلام في الجزيرة محرّراً من التخلّف والقوقعة الإجتماعية وموحّداً للقبائل المتنازعة في ما بينها. فالدين الجديد اعطى رؤيا جديدة موحّدة للعالم، أعطى الإسلام للعروبة الروح فوجدت، واعطت العروبة للإسلام الجسد فنهض.

وبدخول الجيوش العربية الإسلامية منطقة «الهلال الخصيب» أو مناطق الشرق المسيحية الواقعة تحت الحكم البيزنطي، كانت المواجهة مفروضة على الحضارتين. ومنذ معركة اليرموك عام 636، تأكّد النصر للعرب، وسقطت المنطقة بكاملها في أحضان المدّ العربي. وبدأت حملات تعريب الأهالي وكانت الشروط العمرية …

على إثر هذه الموجة التي غمرت الشرق، استفاق الآلاف من السكان الذين لم يتحمّلوا الحكم الجديد، وقرّروا التوجّه الى الجبل. فأمّت الجبال اللبنانية قوافل من المهجّرين الأرثوذكس والسريان والآشوريين من كل أنحاء «سوريا الكبرى»، والتحموا بالموارنة، الذين سكنوا لبنان قبل الفتح العربي منذ القرن الرابع. فكانت القومية اللبنانية وكانت الأمّة اللبنانية.

لكن النزاع تحوّل نزاعين عام 680 حين بدأ النزاع السنّي-الشيعي المستمر الى يومنا هذا، وهنا نقطة ثالثة تجمع لبنان بالعراق، فالأعتاب المقدّسة و»سرداب الغيبة» في العراق و»جبل عامل» في جنوب لبنان، هذا من الناحية العقائدية. أما من ناحية الإنتشار، فهو بدأ في لبنان مع الحمدانيين والمراداسيين وصولًا الى الفاطميين من القرن التاسع حتى الحادي عشر. فكان الوجود في المدن الساحلية أولاً كطرابلس وصور. ثم في شمال لبنان في المنطقة المعروفة الآن بإسم «الضنية» وسُمّيت على اسمهم «الظنية» أي «المشككون»، اما المؤكّد، انّ هذا الانتشار حصل بالتزامن مع حركة المبشرين النُصيريين من حلب إلى الجبال الساحلية لسوريا ولبنان عام 1030 وفقًا للبروفيسور وليام هاريس.

توالت وجوه الشبه بين العراق ولبنان وصولًا الى الدور البريطاني في المنطقة، فمن الليدي هستر ستانهوب «مستكشفة» عسقلان وداعمة الثورة على ابراهيم علي، إلى غيرترود بيل مهندسة العراق الحديث والداعمة لتأسيس خلافة هاشمية في العراق. مرورًا بدور بريطانيا في «شيطنة» اتفاقية 1936 اللبنانية-الفرنسية وتحقيقها للإستقلال في لبنان وسوريا، ربما انتقامًا للحصار القاري… ومن بعدها استقبال لبنان لآلاف اللاجئين الفلسطينيين.

في خمسينيات القرن الماضي، جمع «حلف بغداد» مصير البلدين، وكانت ثورة 1958 فيهما… وساهمت حروب الخليج «العراقية» بتلزيم لبنان لسوريا. ومن قانون تحرير العراق إلى قانون محاسبة سوريا، بدأت ملامح الربيع العربي ورسم خرائط الشرق الأوسط الجديد – بعد مئة عام من اتفاقيات سيفر وسايكس بيكو- تظهر في العراق، حيث أدّى سقوط البعث العراقي إلى سقوط النظام الموالي للبعث في لبنان. مع سقوط صدّام حسين بدأ النفوذ الشيعي يتعاظم شيئًا فشيئًا، واتت حرب تموز فظهر «حزب الله» اللبناني بمظهر مُعيد الإعتبار للعرب، وأتى العام 2011 حين انسحب الأميركيون من العراق، فكانت إيران القوة الإقليمية الوحيدة الجاهزة لملئ الفراغ من خلال فيلق القدس، وتحويل الهلال الخصيب هلالاً شيعياً- فارسياً، تنفيذًا لمطامعها التاريخية أولاً، وثانيًا من منطلق عقائدي يتعلّق بظهور المهدي. وبدأت الحرب السورية ودخول «حزب الله» فيها حاميًا للأعتاب المقدّسة من التّكفير وتحت شعار «لن تُسبى زينب مرّتين»، وكانت أحداث عبرا، حيث ظُهّر السّنة في مظهر التطرّف والإرهاب، في المقابل بدأت تنتشر مقاطع فيديولـ «الحشد الشعبي» حاميًا للكنائس في العراق.

لكن الوضع بدأ يتغيّر تدريجيًا مع اكتشاف النفط في حوض المتوسط، فدخل التركي النزاع مع أحلام الخلافة واعادة الوطن الأزرق، وانطلقت في الأول من تشرين 2019 ثورة في العراق احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية للبلد، وانتشار الفساد الإداري والبطالة، ووصلت مطالب المتظاهرين إلى إسقاط النظام الحاكم، وتشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات مبكّرة. وندّد المتظاهرون أيضاً بالتدخّل الإيراني في العراق وبالطائفية… وما هي إلا أيّام حتى انطلقت التظاهرات في لبنان حاملةً المطالب نفسها. إلى أن وصل العام 2020 ، فشكّل مقتل قاسم سليماني خلطًا للأوراق، وبدأت الجماعات التكفيرية تتحرّك مجدداً، ووصل الكاظمي إلى رئاسة الحكومة العراقية ضاربًا الفساد بيد من حديد، مقلّمًا أظافر»الحشد الشعبي»، وهو المُتهم بتسهيل قتل سليماني…

انطلاقًا من كل ما ورد، هل خطوة الكاظمي ستنعكس على لبنان؟ هل سنرى فكًّا للإرتباط بين رئيس الجمهورية و»حزب الله»؟ هل سيؤدي «اتفاق الإطار» إلى تطبيع كامل؟ هل المجموعات الإرهابية السلفية التي تحركت «مصادفة» في لبنان والعراق وسوريا وليبيا وأذربيجان، تخدم مصلحة المحور الإيراني، أم هي تتحرك من ضمن المشروع التركي لقيادة العالم السنّي في مواجهة منتدى غاز شرق المتوسط؟ أم هي نتيجة الخيارات التركية الجديدة بالتحالف مع الصين وايران؟ ما هو مصير الهلال الخصيب، بعد عودة الأميركي كلاعب بالأصالة وليس بالوكالة؟ مع كل التجارب السابقة والنزاعات الحضارية، ما هو موقف السكان الأصليين للهلال الخصيب؟ ما هو مصير بقية الأقليات الإتنية؟ ثقافة الإلغاء لم تعد جائزة، بدلاً من أن يصدّر الهلال الخصيب الحضارة، أصبح يصدّر الجهل والتخلّف والمرتزقة.

الحل يكمن بالعودة الى الأصالة، والإعتراف بالآخر، والسّعي الى بناء مجتمع تعدّدي مدني شبيه بالـ «PAX ROMANA «.

Exit mobile version