«المعركة اليوم هي معركة مصيرية، والوقوف في وجه العدوان هو وقوف في وجه المخطّطات الإسرائيلية». بوضوحٍ غير قابل للتأويل، ربط المتحدّث باسم القوات المسلحة اليمنية، يحيى سريع، قبل يومين، العدوان الذي تقوده السعودية منذ خمسة أعوام على بلاده، بإسرائيل. لعلّ في كلام العميد اليمني، هذه المرّة، ما هو أبعد بكثير من قراءة المؤشّرات الدالّة على اتباع جيش آل سعود، وحلفائهم، استراتيجيات عسكرية ابتكرها جيش العدو الإسرائيلي خلال حروبه على الفلسطينيين وشعوب المنطقة، عمادها إبادة المدنيين العزّل، وسحق عمران بلادهم وحضارتهم، ونسف كلّ الأوجه الضامنة للحياة الكريمة لهم، بشكلٍ ممنهج ومستمر كما تفعل السعودية باليمنيين؛ إذ أعلن سريع امتلاك القوات اليمنية «أدلّة على المشاركة العسكرية الإسرائيلية في العدوان على اليمن»، مؤكداً أنه «سيُكشف عنها في الوقت المناسب».
اللافت في الحديث المتقدّم ليس امتلاك أدلّة عليه فقط، بل في أن توقيته يتزامن مع تظهير الحلف بين كيان العدو وبعض دول الخليج، وفي مقدّمتها الإمارات. وفي هذا الإطار، اعتبر سريع أن «تطبيع العلاقات بين أنظمة وسلطات دول العدوان وبين الكيان الإسرائيلي المشارك في العدوان على بلادنا يؤكد أننا بالفعل في الموقف الصحيح»، ليعود ويحذّر، بناءً على وثيقة سرّية، من خطرٍ يُهدّد الأمن القومي اليمنيّ من جرّاء مشروعٍ إسرائيلي لإعادة توطين عشرات آلاف الإسرائيليين في اليمن.

الإسرائيليون الذين يحذّر منهم العميد، اعتُبروا حتى خمسينيات القرن المنصرم جزءاً من النسيج الاجتماعي اليمني، قبل أن تنشط الوكالة الصهيونية في تهجيرهم من صنعاء إلى تل أبيب (كانت آخر دفعة هجّرتها إسرائيل، في عملية سرّية، من اليمن، عام 2017)، ليصبحوا جزءاً لا يتجزّأ من المجتمع الإسرائيلي. وعلى رغم الظلم الذي لحق بهم من قِبَل السلطات الإسرائيلية، وفي مقدّمة وجوهه بيع أكثر من 5000 آلاف من أطفالهم للتبنّي للعائلات الإشكنازية والأميركية، ومعاملتهم أقلّ من أقرانهم اليهود الغربيين، إلا أن أبناءهم انخرطوا في جيش العدو، وسرعان ما تحوّلوا إلى مواطنين إسرائيليين وشركاء فعليين في قتل الفلسطينيين والعرب.
إذاً ما تفاصيل هذه القضية؟ ولماذا كشف عنها العميد سريع الآن فقط؟ ألأن الوثيقة التي تحدّث عنها وصلت إلى أيدي القوات اليمنية مؤخراً؟ أم لأن ثمّة ارتباطاً مباشراً بين إعلان التطبيع، وتنفيذ هذا المشروع الذي هو ليس إلّا حلقة في سلسلة من المشاريع التي تستهدف اليمن وأمنه؟

«عين» الإمارات في صنعاء
اطّلعت «الأخبار» على وثيقتين سرّيتين: الأولى تحدّث عنها العميد سريع في خطابه الأخير، وهي صادرة عن سفارة دولة الإمارات في صنعاء؛ والثانية عبارة عن برقيّة مرسَلة من قِبَل جهاز الأمن القومي اليمني إلى الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وفي التفاصيل، تحمل الوثيقة الأولى الرقم 1/1/4-11، وهي مؤرّخة بتاريخ 3/3/2004، ومرسَلة من سفير الإمارات لدى اليمن، حمد سعيد الزعابي، إلى وكيل وزارة الخارجية الإماراتية. وفيها يفيد السفير بأنه «زار اليمن مؤخراً وفدُ هيئة التراث اليمني اليهودية، والتقى العديد من المسؤولين اليمنيين، بِمَن فيهم الرئيس علي عبد الله صالح». ويتابع أنه «تأتي زيارة الوفد المكوّن من يحيى مرجى من يهود إسرائيل، وإبراهيم يحيى يعقوب من حاملي الجنسية الأميركية، وسليمان جرافى، في إطار الجهود الصهيونية للتطبيع بين الدولة اليهودية واليمن». ويذكر أن الوفد تَقدّم بعدّة مطالب للمسؤولين اليمنيين شملت : «1- بناء متحف للتراث اليهودي في صنعاء. 2- تسوير قبر الشبزى، وهو أحد حاخامات اليهود في تعز. 3- تسوير مقابر اليهود في عدن ورادع ومختلف المناطق التي عاش فيها اليهود. 4- إعادة تجنيس 45 ألف يهودي من إسرائيل، و15 ألف أميركي يهودي بالجنسية اليمنية. 5- إنشاء معبد ومدرسة في ريدة». ووفقاً للسفير الإماراتي، فإن “هيئة التراث اليمنية” بعثت برسالة إلى رئيس الوزراء اليمني، تطلب فيها «بناء المتحف، موضحة أهميته وأسبابه، وحتى الآن لم يرد رئيس الوزراء على الطلب منتظراً ربّما تعليمات من الرئيس». وللدلالة على العلاقة التي كانت تربط بين الهيئة والمسؤولين اليمنيين السابقين، ولا سيما الرئيس، تلفت الوثيقة إلى أن «الرئيس صالح وعدهم ببناء المعبد والمدرسة في ريدة، وهي البلدة التي ولد فيها أبراهام، واستطاع أن يبني فيها فيلا أثناء زياراته لليمن، كما بنى أخ له اسمه سليمان، المقيم بإسرائيل، فيلا كذلك». إضافة إلى صالح، «التقى هؤلاء بنائب وزير الداخلية اليمني، اللواء مطهر المصري، الذي استقبلهم بحفاوة بالغة، ويبدو أنه على معرفة سابقة بهم، وذكر أنه سبق له أن زار إسرائيل بناءً على ترتيب منهم». كما «التقوا قائد المنطقة الشمالية – الغربية ورئيس مصلحة الجوازات، العميد علي محسن الأحمر، وطلب منه يحيى مرجى أثناء المقابلة تجنيس أولاده وأمهم المقيمين بإسرائيل». لا توضح الوثيقة سبب اهتمام السفير الزعابي بهذا اللقاء، وإن كان الهدف منه إطلاع وكيل وزارة الخارجية على الدور الذي يراد لصنعاء أن تلعبه في إطار ما سمّاه «التطبيع اليهودي اليمني»، والذي يندرج ضمن «مخطّط أكبر ترسمه الولايات المتحدة للمنطقة».

مع ذلك، ثمّة تفاصيل لافتة تَرِد في الوثيقة الثانية ربما تُفسّر ذلك الاهتمام؛ فتحت عنوان «سرّي للغاية»، يرسل رئيس جهاز الأمن القومي اليمني، علي محمد الآنسي، إلى الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، برقية يعود تاريخها للعام 2007. أمّا موضوعها فهو : «المدعو / بروس كاشدان – المستشار الخاص لوزير الخارجية الإسرائيلي». وفيها يشير الآنسي إلى أنه «يودّ الجهاز أن يطلع فخامتكم بأن المذكور (كاشدان) زار بلادنا من 14/7/2007-16/7/2007 وأنه قد تمّت متابعة زيارته من قِبَل الجهاز بناءً على توجيهاتكم الرشيدة بتاريخ 2/2/2005 والتي تقضي بالانتباه عند تكرار زيارته إلى بلادنا». بحسب هذه البرقية، فإنه «خلال هذه الزيارة، عرّف المدعو/ كاشدان عن نفسه أثناء اللقاء (مع مسؤولين يمنيين بينهم أقرباء الرئيس صالح) بأنه يعمل مستشاراً خاصاً لوزير الخارجية الإسرائيلي، وأن مكان إقامته هو في دبي، وأنه يعتبر منسّقاً بين الحكومة الإسرائيلية وحكومة دبي. كما أشار إلى أنه يتنقّل في العديد من دول المنطقة، ومنها السعودية واليمن وجيبوتي، تحت غطاء رجل أعمال، وأنه يحمل جواز سفر أميركياً». وردّاً على استفسار حول دور كاشدان في اليمن، كان قد تَقدّم به وكيل جهاز الأمن القومي لقطاع العمليات الخارجية، العقيد عمار محمد عبد الله صالح، خلال اللقاء، أجاب الأول بأن «نشاطه في الجمهورية اليمنية لا يزال محدوداً جداً، وذلك بسبب تحفّظ الحكومة اليمنية على علاقاتها بإسرائيل، مشيراً إلى أنه قد التقى بالعديد من الشخصيات السياسية، مثل عبد الكريم الإرياني، وبعض المسؤولين في وزارة التخطيط، كما أنه التقى أيضاً بالعديد من رجال الأعمال اليمنيين». أمّا بالنسبة إلى الأهداف التي رغب كاشدان في تحقيقها من خلال زياراته المتكرّرة لليمن، فهي بحسب الوثيقة: «توسيع النشاط الاقتصادي الإسرائيلي في اليمن، والذي بدوره سيدير العجلة السياسية لاحقاً». إضافة إلى ذلك، يشير الآنسي إلى أن كاشدان «يرغب في تعزيز التعاون في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب، وضمان أمن البحر الأحمر. وكذلك في المجال العسكري في تطوير وتحديث المعدات العسكرية وخفر السواحل. وأيضاً في المجال الزراعي والمياه». على هذه الخلفية، قَدّم جهاز الأمن القومي، في البرقية ذاتها، عدداً من التوصيات للرئيس؛ ومن بينها «الاكتفاء بالمقابلة التي عُقدت بين وكيل الجهاز لقطاع العمليات الخارجية وكاشدان، وعدم عقد أيّ مقابلات معه بصفته مستشار وزير الخارجية الإسرائيلي، من أيّ جهة رسمية داخل بلادنا»، إضافة إلى «حصر مسألة التعامل الإسرائيلي مع بلادنا في إطار العلاقات غير الرسمية بين المذكور والشخصيات التي تَعرّف عليها من مواطني بلادنا، ورصد هذه اللقاءات والتحركات بدقّة ومتابعتها استخبارياً وتوثيق الأدلّة المتعلقة بها أولاً بأول».
مع ذلك، لم يكن رأي جهاز الأمن القومي اليمني حاسماً في شأن تطبيع العلاقات مع كيان العدو؛ إذ أوصى الرئيس صالح بـ«دراسة أوجه التعاون التي اقترحها المذكور من حيث إيجابياتها وسلبياتها ومدى خدمتها لصالح بلادنا وتأثيرها على مصالحها للخروج برؤية استراتيجية، وفقاً لما تقدّم، مع تحديد نقطة التواصل مع المذكور في محل إقامته شبه الدائمة في دبي، إذا ما تمّ تحديد أيّ تعاون مستقبلي حول ما ذُكر».
إذاً، تتقاطع الوثيقتان عند كون الإمارات لعبت دوراً مهمّاً في إطار محاولة تطبيع العلاقات بين العدوّ واليمن، والدليل على ذلك يبرز في الاهتمام الذي أبداه السفير الإماراتي لدى صنعاء بزيارة “هيئة التراث اليهودية” إلى اليمن، وفي استضافة الإمارات، كاشدان، «بطل» تطبيع العلاقات الإسرائيلية – الخليجية، على أراضيها، منذ سنوات طويلة سبقت أصلاً زيارته لليمن!