نبيه بري.. الأرنب الأخير
“بعد اليوم إنتهى عملي وأملاً بالتوفيق إن شاء الله للبنان والجميع”.. جملة لم يعتد اللبنانيون سماعها من الرئيس نبيه بري. فلرئيس المجلس النيابي “في كل عرس قرص”، داخل الصلاحيات وخارجها وفي حجرات الدستور الصارمة والضيقة وعلى “شرفات الإجتهاد” الذي يعرف كيف يوسعها حتى تناسب “شهواته” التنفيذية التي لم تنقطع منذ إنتفاضة 6 شباط 1984 أو الإتفاق الثلاثي..
ليس في العادة رؤية نبيه بري يغادر ملفاً أو “يتكرم” بالتنازل عن إدارته، لا سيما متى كان الملف بحجم ترسيم الحدود البحرية والبرية مع إسرائيل، ولا سيما اكثر وأكثر متى كان العنوان، جنوبي الوجهة..
كأنه شروقه الأخير، ليكذب غروباً سياسياً كثر الهمس حوله.
يحكي سياسي إقليمي إلتقى الرئيس بري مؤخراً أن زائر عين التينة بات يشعر بوضوح أكبر من ذي قبل، أن القرار صار في مكان آخر..
هو آخر الأرانب، سحبه بري من قبعة يتهيأ لتعليقها على مشجب العمر والتجربة، في لحظة قاد فيها حزب الله، الثنائي والشيعة الى أضيق الزوايا وأعتمها.
كابر ليقول أن الاتفاق الاطار، لترسيم الحدود البحرية والبرية، سابق على العقوبات التي طالته هذه المرة، بشخص معاونه السياسي الوزير علي حسن خليل، بعد أن راوغته لعقود، كان أخطرها إلصاق إسمه بعبارة “المستر إكس” الواردة في تقرير ديتليف ميليس عن إغتيال الرئيس رفيق الحريري.
كابر ليقول أنه لا “يحلى على الرص”.. لكن الرسالة وصلت.. ومهدت لرسائل آتية أشد قسوة، وخارج المألوف، لو أصر حزب الله على سلوك الدرب التي يمشيها!
ليس نبيه برى من تفوته الانتقالة الاسرائيلية من الحروب التقليدية الى حروب الخفاء التي تارة تأخذ شكل إفشال عملية تسلل لحزب الله وتارة تفجيراً لموقع ذخيرة في قلب الجنوب، وثالثة كشفاً عن مواقع لصواريخ يملكها حزب الله في بيروت!
الحقيقة أنه لم يبقَ للشيعية السياسية الا إسرائيل، في لحظة طلاقها الجزئي أو الكامل مع بقية المكونات اللبنانية، التي باتت تُحمِّل هذا الفريق السياسي أكثر من غيره مسؤولية الذوبان السريع لكل مرتكزات الاستقرار الأمني والاقتصادي والمالي والسياسي في لبنان… فلا الدعوة للتوجه شرقاً ترقى الى أكثر من عبارات عابرة في خطاب عابر. ولا “البلف” غرباً عاد له مكان.. وأبواب العرب موصدة حتى إشعار آخر.. وفرنسا بدل عن ضائع، غير مكتمل المواصفات..
لم يبقَ للشيعية السياسية الا إسرائيل، وليس سوى نبيه بري ليرقص الرقصة الأخيرة.
في السياسة يؤخذ مصطلح الثنائي على محمل البداهة وهو أبعد ما يكون عنها. فالثنائي هو الواقع السياسي الذي نتج عن هزيمة عسكرية منيت بها حركة أمل في معركتها مع حزب الله، وهي كانت معركة بالواسطة بين سوريا وإيران حول من يمسك بورقة الجنوب بعد خروج ياسر عرفات والمقاومة الفلسطينية من لبنان في إثر الاجتياح الاسرائيلي عام 1982.
أخذت أمل الدولة، منزوعة السلاح، وسيج حزب الله الدويلة بسلاحه. كأن وضع الشيعة رِجلًا في الدولة وأخرى في الدويلة بإنتظار نتيجة الصراع بين الاثنين. يكون بري جسر “المقاومة” الى الدولة إن إنتصرت الأخيرة، وتكون المقاومة جسر “شيعة نبيه” الى الدويلة إن أحكمت هي سيطرتها..
وبين طيات هذه الثنائية ومسار ولادتها واستتبابها عنواناً للشيعية السياسية كانت إسرائيل هي الحاضر الغائب.
حزب الله يرفع لواء شطبها من الوجود ونبيه بري يفاوضها على ترتيب حسن الجوار، منذ أن جلس مع الرئيس الراحل بشير الجميل (لم يكن رئيساً بعد) ووليد جنبلاط في لجنة الإنقاذ مع الرئيس الراحل الياس سركيس..
حزب الله يغالي بتحرير القدس ونبيه بري يستكمل عبر حرب المخيمات نتائج الاجتياح الاسرائيلي للبنان…
نبيه بري يريد الاكتفاء بلبنانية الوظيفة وحزب الله يشد البلد الصغير نحو حروب تشن تحت راية العقيدة..
على طول هذا المشوار خسر نبيه بري كثيراً. توسع نفوذ حزب الله كثيرا. زادت حصته النيابية ثم الوزارية ثم صار يشكل الحكومات ويأتي برؤساء الجمهورية..
بيد أنه وفي ذروة إحكام قبضته على البلاد وفي لحظة إكتمال الدائرة، وجد حزب الله نفسه وحيداً.. الشيعة محاصرون من الخارج ومتهمون في الداخل..
لم يبقَ الا إسرائيل، لتمزيق الشباك التي علق فيها مشروع حزب الله. ولم يبقَ الا نبيه بري رافعاً أرنبه عالياً من أذنيه، أمارة على أن الساحر لم يفقد خفته.. لكنه يعرف أنه أرنبه الأخير.. وأنه يمسكه بيدين لا يراد لهما أن ترتفعا..