المرجعية الدينية العليا وبرکاتها علی العراق
الوقت- منذ تأسيسه واستقلاله عن بريطانيا في عام 1924، كان العراق أحد أكثر البلدان التي تعاني من الأزمات في منطقة غرب آسيا، وحتى حجم العنف والتغيير السياسي في البلاد كان لدرجة أن بغداد تعتبر في العالم العربي “عاصمة الإعدامات”.
هذا البلد، الذي يتميز بترکيبته وهويته الفسيفسائية والمتعددة الأوجه، تعرض دائمًا لتهديدات أمنية وسياسية مختلفة على مدى عقود، وفي الوقت نفسه، في السنوات التي أعقبت تأسيس العراق، لعبت المرجعية في العراق دائمًا دورًا خاصًا في التطورات السياسية والاجتماعية، ويمکن اعتبار دورها الأهم هو محاربة التدخل الأجنبي والسياسات الاستعمارية البريطانية.
إن دور المرجعية في التعليم العام للنخب السياسية العراقية التي تحكم العراق الآن لا يمكن إنكاره، في غضون ذلك فإن دور آية الله السيستاني هو الأكثر أهميةً من غيره.
لقد لعب آية الله السيستاني، بصفته الزعيم الديني لشيعة العراق، دورًا فريداً في انتقال ساسة البلاد من الأزمات المختلفة منذ عام 2003، ولاقى موقعه البارز الاحترام والطاعة ليس من قبل الشيعة فحسب، بل من قبل جميع التيارات السياسية أيضاً.
مع أخذ هذه المقدمة في الاعتبار، يناقش هذا المقال المکانة الخاصة لآية الله السيستاني في العراق بعد عام 2003، في ثلاثة مجالات.
الدور الخاص للمرجعية في بناء الدولة العراقية بعد عام 2003
على الرغم من أن المرجعية قد لعبت دورًا في مختلف المجالات والتطورات في التاريخ السياسي للعراق في السنوات التي سبقت عام 2003، إلا أن هذا الدور والمكانة تعززا أكثر من أي وقت مضى في السنوات التي تلت سقوط الحكومة البعثية.
على المستوى الابتدائي، من المهم ملاحظة أنه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ضغط آية الله السيستاني باستمرار على الولايات المتحدة لإجراء انتخابات.
وأظهر ذلك الذكاء الخاص لآية الله السيستاني في حقبة ما بعد البعث في العراق الجديد، لأن سماحته كان مدركاً لحقيقة أنه من أجل عودة الاستقلال والسيادة إلى الشعب العراقي، من الضروري على المستوى الأول أن يتولى السياسيون العراقيون شؤون الحكومة أولاً.
وهذا يدل على أن سماحته يری أن للإسلام مهمةً سياسيةً، وأن القدرة المحتملة لخطاب الإسلام السياسي لآية الله السيستاني واضحة جدًا، لدرجة أن الغربيين اعترفوا بأنه لا يمكن تجاهل مكانته في الساحة السياسية العراقية.
على صعيد آخر، في جميع السنوات التي تلت عام 2003، وعلى الرغم من سقوط ديكتاتورية صدام، يلتزم آية الله السيستاني في التمسك باستراتيجيته التقليدية المتمثلة في عدم التدخل في شؤون الشعب العراقي، وبالنظر إلى النسيج المتعدد الأعراق والأديان في هذا البلد، فإنه يعطي الرأي في الشؤون الكلية وعلى المستوى التوجيهي فحسب، ويتجنب التدخل في تفاصيل التطورات السياسية والعمليات الإدارية في العراق.
وهكذا، فقد وضع هذا النهج مكانة المرجعية في مرتبة عالية من الشرعية الشعبية، أي حتى خارج البيت الشيعي وبين السنة والأعراق والأديان العراقية الأخرى.
في الواقع، استطاع خطاب آية الله السيستاني عن الإسلام السياسي، بمقاربته الديمقراطية والشمولية، إقناع العديد من الجماعات والأحزاب غير الشيعية بعد سقوط صدام، بأن هذا الخطاب يخدم مصالحهم.
إن هذا الخطاب لا يؤكد على السمات الشخصية فيما يتصل بتشكيل الحكومة وإدارة الشؤون، ولكنه يرکِّز علی الوظيفة والواجب، والقدرة على تلبية المطالب الاجتماعية والسياسية لجميع المواطنين وخلق الرضا العام، يُعتبران عاملاً في خلق واستمرار شرعية الحكومة.
وبشكل عام يمكن القول إن مكانة آية الله السيستاني في المجتمع العراقي، ترجع إلى ثلاثة عوامل محددة هي:
موقع حوزة النجف الأشرف العلمية في العراق؛ حيث إن الإقرار بالأعلمية الفقهية لآية الله السيستاني ومواقفه الديمقراطية في مسيرة التطورات في هذا البلد، والمواقف الإسلامية والديمقراطية لآية الله السيستاني، والتي لقيت دعماً وموافقةً نسبيةً من قبل جميع الجماعات العرقية وأتباع الديانات المختلفة في السنوات التي تلت عام 2003، جعلته نموذجًا فريداً لمؤيدي الديمقراطية.
آية الله السيستاني ورسم خارطة طريق للانتقال من الأزمات
لطالما دعم آية الله السيستاني التيارات السياسية في البلاد خلال تشكيل المجلس الانتقالي عام 2004، والحكومة الانتقالية عام 2005، وتشكيل الحكومة الأولى عام 2006 برئاسة نوري المالكي، ومراحل أخرى من انتخابات مجالس المحافظات. کما كان له دور فعال في حل الأزمات والمشاكل بين الفصائل السياسية في العراق، بتوجيهاته في المراحل الحرجة.
لكن معظم دور آية الله السيستاني في الاضطرابات السياسية للعراق الجديد، يمكن أن يُعزى إلى دوره في انتقال العراق من الأزمات الكبرى.
في غضون ذلك، يمكن تقييم أهم أزمة لعب فيها آية الله السيستاني دورًا، هي عملية إنقاذ العراق من التهديدات الأمنية لأكبر تنظيم إرهابي في التاريخ، ألا وهو داعش وخلافة أبو بكر البغدادي المزعومة.
منذ أواخر عام 2013، عندما كان تنظيم داعش الإرهابي يتقدم بسرعة، وظلت القوات الدولية وخاصةً الحكومة الأمريكية، صامتةً وسلبيةً في مواجهة جرائم التنظيم، دعا آية الله السيستاني في 13 يونيو 2014 جميع المسلمين إلى الجهاد ضد هذا التنظيم الإرهابي لإنقاذ البلاد.
وقد أدى ذلك في فترة وجيزة إلى تشكيل قوات الحشد الشعبي ووجودها في ساحات القتال كأبطال وطنيين، ونتيجة ذلك کانت إنقاذ العراق من داعش.
كما لعب آية الله السيستاني، في الأيام التي تلت تنظيم داعش، دورًا فريداً في أزمة الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان، وتشكيل الحكومة في مرحلة ما بعد داعش، ودعوة المتظاهرين العراقيين إلى الهدوء في 2019، وکذلك تعيين خلف لعادل عبد المهدي، وهو الأمر الذي ساعد التيارات السياسية العراقية في کسر الجمود السياسي، وبسبب مكانته الرفيعة بين أبناء الشعب العراقي، فقد كانت توجيهات المرجعية وبياناتها فصل الخطاب.
وبمعنى آخر، على الرغم من أن آية الله السيستاني لم يلعب أبدًا دورًا مباشرًا في الانتقال من هذه الأزمات على شكل أوامر أو تدخل مباشر، إلا أن توجيهاته كانت خارطة طريق لجميع التيارات السياسية في الانتقال من الأزمات وإعادة بناء الوضع الجديد.
موقع آية الله السيستاني العابر للأعراق والأديان في العراق
للعراق، من حيث السياق العرقي والديموغرافي، بنية فسيفسائية تشمل مجموعات عرقية ودينية مختلفة. حتى أن تنوع الهويات في هذا البلد كبير لدرجة أنه يمكن اعتبار العراق صورةً مصغرةً لمنطقة غرب آسيا.
لكن في غضون ذلك، تجدر الإشارة إلى أن مرجعية النجف بقيادة آية الله السيستاني، كانت موضع الاحترام والمراجعة في الأيام الصعبة لعقود مختلفة، ليس فقط للشيعة ولكن أيضًا لجميع الجماعات العرقية والدينية، بما في ذلك السنة والأكراد والتركمان وحتى المسيحيين والآشوريين واليهود.
لقد أظهر آية الله السيستاني، بمواقفه العابرة للأعراق والفئوية، أنه ينظر في مصالح جميع المجموعات العرقية مثل مصالح الشيعة تماماً. وقد خلق له ذلك شعبيةً كبيرةً بين الأكراد والسنة، فضلاً عن الشيعة.