تحولات أيلول اللبنانية معرقلو الاتفاق بين اللبنانيين يعلنون بدء التفاوض على اتفاق مع إسرائيل
كانت بداية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي فرنسية، فإذا بنهايته تتحوّل أميركية – إسرائيلية! نتحدث هنا عن لبنان بعد سنة من الانتفاضة الشعبية، وشهرين على تفجير نصف عاصمته. جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نتيجة الكارثة، حاملاً مقترحات صريحة بشأن برنامج إصلاحي تتولّى تنفيذه حكومة مستقلة ضمن مهلة زمنية محددة، رحّب جميع أطراف السلطة بزيارته التي كشفت عن عزلتهم الشعبية، ووعدوه بالاستجابة لمشروعه، إلا أنهم لدى الوصول إلى نقطة تشكيل الحكومة، سقطوا في اشتراطات حزب الله حول “شيعية” وزارة المال وتسمية وزراء الطائفة، ففشل ماكرون وانسحب الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة مصطفى أديب من المهمة.
أطاح “الثنائي الشيعي”، الذي يضم حزب الله وحركة رئيس المجلس النيابي نبيه بري اتفاقاً بين اللبنانيين ترعاه فرنسا، وذهب بسرعة صاروخية إلى الموافقة على التفاوض مع إسرائيل، توصلاً إلى اتفاق بخصوص المياه البحرية، ترعاه أميركا. حدث هذا التحوّل الكبير خلال أسابيع الانشغال بتشكيل حكومة لم تولد، كان لبنان ينتظر خلالها فرجاً من العاصمة، فجاءه نبأ الاتفاق على التفاوض مع إسرائيل من الجنوب.
كانت “الممانعة” قد دأبت على وصف كل من يعارضها بـ”العمالة والالتحاق بالسفارات المستكبرة”، وسارعت إلى شن حملة بغيضة على البطريرك الماروني بشارة الراعي، بسبب دعوته إلى تولّي الدولة مسؤولية إدارة شؤون لبنان وإعلان حياده الإيجابي، ما جعل الناس يتساءلون لاحقاً: ماذا لو أعلن الراعي بدء التفاوض مع إسرائيل لترسيم الخطوط البحرية بين “البلدين”، بدلاً من الممانعين، وماذا كان سيفعل هؤلاء؟
غير أن المسألة ليست هنا، فقد تبخّرت بداية سبتمبر الفرنسية الواعدة بسبب موقف إيراني رافض لتدخّل باريس في لبنان، جرى عرض مجرياته مراراً، إذ اعتبر نظام الملالي المبادرة الفرنسية محاولة لسحب نفوذه من لبنان لمصلحة الغرب، وتمهيداً لمحاصرة حزب الله ونزع سلاحه خدمة لـ”العدو الصهيوني” ولذلك تم إفشالها من دون أي اعتبار للأزمة الخانقة التي يعيشها اللبنانيون.
كان ماكرون لا يزال في بيروت، عندما أعلن حضور مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر إليها، وصوّرت الزيارة على أنها محاولة للاطلاع ومتابعة نتائج المسعى الفرنسي. كان في الأمر شيء من ذلك، فخصص شينكر المكلف بالإشراف على مشروع الاتفاق اللبناني الإسرائيلي زيارته للقاء المعارضة المدنية الشعبية، وأشاع أنه لن يلتقي أياً من المسؤولين الرسميين، غير أنه في الواقع تابع اتصالاته مع أحد مساعدي بري بشأن الاتفاق على المحادثات مع إسرائيل.
لم تنقضِ أيام على مغادرته حتى أعلن خبر اقتراب موعد المباحثات بعد عيد “العرش” اليهودي، وأذاع الإسرائيليون النبأ أولاً، ثم أعلنه بري بالتزامن مع بيان لوزير الخارجية الأميركية، وبعد ذلك فقط صدر بيان عن رئيس الدولة اللبنانية، صاحب الحق مع مجلس الوزراء بمقتضى الدستور، في إدارة التفاوض وإبرام الاتفاقات الدولية. فوجئ المبعوث الأميركي من سرعة التجاوب “اللبناني”، وكان ردّ فعله، “لا أعرف لماذا وافقوا (في لبنان) الآن!”، لكنه بالتأكيد يعرف السبب والتفاصيل.
لم يكن تولّي بري مهمة التفاوض متاحاً من دون موافقة حليفه حزب الله، وما كان حزب الله “الجاهز” دائماً “لضرب” إسرائيل ليوافق على هذا التفاوض من دون إيعاز إيراني. وإيران التي صدّت المبادرة الفرنسية في لبنان، تبحث عن منافذ في جدار الحصار الأميركي، وهو ما برعت في حياكته سراً لتظهر نتائجه لاحقاً في مواقع نفوذها.
وبحسب معطيات إعلامية، فإن طهران لم تقطع اتصالاتها مع الأميركيين. ومنذ اغتيال قاسم سليماني، أمكن تعداد ثلاث محطات تواصل إيراني أميركي: الأولى تمت مطلع العام الحالي (بعد الاغتيال) بوساطة قطرية، والثانية في مطلع أغسطس (آب) الماضي بوساطة ألمانية والثالثة في سلطنة عمان بعد منتصف سبتمبر الماضي.
لم تؤكد الولايات المتحدة حصول مثل هذه الاتصالات التي نفتها إيران بشدة، لكن الرئيس دونالد ترمب لم يبخل بالتصريح عن احتمال التوصل إلى اتفاق مع طهران قبل الانتخابات الأميركية أو بعدها مباشرة.
وهكذا، بعد عشر سنوات من الوساطات والتوترات، جرى الإفراج عن “تواصل” لبناني مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية، ما يتيح استفادة لبنان من حقول الغاز في مياهه ويمهّد لعلاقات “بين دولتين” تعترفان ببعضهما ضمناً، خصوصاً إذا امتد هذا الترسيم إلى الحدود البرية، التي تحتاج إلى مساهمة دمشق في إنجاز ترسيمها (في مزارع شبعا)، وهو أمر لا يبدو مستبعداً في الحسابات الرسمية السورية.
لا يمكن نَسب هذه “الانفراجة” على الحدود الجنوبية للبلاد إلى نضوج الموقف اللبناني الذي يعيش أقصى “المعاناة” على شتى الصعد، ولا إلى تغيير حاسم في الموقف الإسرائيلي، بل إلى رضوخ إيراني للضغوط المتزايدة، في ظل حصار دولي وإقليمي يزداد إحكاماً. وترجمة هذا الرضوخ جاءت في نقطة حساسة تعتبرها طهران عنصر قوة في تعاملها مع الإقليم والواقع الدولي. فلبنان بالنسبة إليها موقع متقدم في مواجهة إسرائيل وأميركا، وهي عندما تسمح له، عبر أنصارها، بالتفاوض على “ترسيم الحدود المشتركة” مع “العدو الغاصب” وبرعاية “الشيطان الأكبر”، فهذا يعني أنها توجّه رسالة حسن نية إلى هذين العدو والشيطان في انتظار مقابل ما.
لن يكون لبنان متضرراً من إنجاز ترسيم حدوده الجنوبية، إلا أن المثير في الموضوع سيكون ترسيخ قناعة أهله بأن الكثير من الحروب التي خيضت باسم أرضه وشعبه، إنما كانت مقاولات إقليمية ودولية، وأن الذي يتمكّن من تبرير اتفاق مع العدو، فيما ينسف اتفاقاً مع بني قومه كرماً لطرف أجنبي، ليس أهلاً لثقتهم. هذا ما أثبتته أيام سبتمبر اللبنانية مرة أخرى، وهو ما يجعل اللبنانيين المتمسكين بدولة القانون، أكثر إصراراً على تحقيق أهدافهم.