د. عدنان منصور*-البناء
رغم أنّ كلاً من أذربيجان وأرمينيا كانتا من بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، إلا أنً صراعاً مسلحاً نشب عام 1988، وقبل تفكك الاتحاد السوفياتي، في مرتفعات منطقة إقليم ناغورني قرة باخ، الواقع جنوب غربي أذربيجان، على مسافة ليست بعيدة عن حدود أرمينيا. هذا الصراع امتدّ إلى عام 1994. ففي 20 شباط عام 1988، طلب برلمان الإقليم، حيث غالبية سكانه من الأرمن، الانضمام إلى أرمينيا، وقد تمّ التصويت على الانفصال عن أذربيجان والانضمام إلى أرمينيا.
كانت ذريعة برلمان ناغورني قرة باخ، انّ السلطات السوفياتية الأذرية، تمنع الأرمن في الإقليم من ممارسة عقائدهم وشعائرهم، وتقيّد حرياتهم الفكرية والدينية، والأهمّ من كلّ ذلك حقّ الأرمن في سيادتهم على أرضهم.
أثناء تفكك دول الاتحاد السوفياتي، أعلنت أذربيجان الانفصال عن موسكو، ونقلت السلطة إليها، إلا أنّ الغالبية الأرمنية صوّتت على الانفصال عن أذربيجان، وانضمام ناغورني قرة باخ الى أرمينيا.
اندلعت الحرب بين الجانبين الأرميني والأذري شتاء عام 1992، وأسفرت عن سيطرة القوات الأرمينيّة على الإقليم وعلى أجزاء أخرى، وتشريد أكثر من مئة ألف من مواطني الجانبين.
بذلت روسيا والولايات المتحدة وفرنسا مساعيها لإنهاء الصراع، حيث أسفرت هذه المساعي عن اتفاق لوقف إطلاق النار تمّ التوقيع عليه في أيار 1994، من قبل مجموعة مينسك (مؤتمر الأسس الأمنية والتعاونية الأوروبية).
لا بدّ من الإشارة هنا، إلى حقيقة وهي أنّ النزاع ليس نزاعاً دينياً كما يتصوّر البعض، اذ إنّ المسيحيّين الأرمن والمسلمين يتعايشون معاً في أذربيجان منذ قرون طويلة، إلا أنّ النزاع المحتدم منذ ثلاثة عقود، والذي أخذ طابع العنف المسلح، لا ينفصل عن المطالب القوميّة للأرمينيّين، ولا عن التجاذبات والمصالح والسياسات للدول في منطقة القوقاز، كروسيا، تركيا أذربيجان، أرمينيا وإيران، وكذلك خارج المنطقة حيث لأوروبا والولايات المتحدة مصالح وأهداف استراتيجية فيها.
دول القوقاز قد تلتقي على أمور معينة، لكنها قد تفترق حول أخرى، مما يجعل الحرب في إقليم ناغورني قرة باخ، حرباً بالوكالة عن الدول الفاعلة المؤثرة، التي تريد أن تحقق مكاسب عديدة تعزز من نفوذها، وتصبّ في صالح أمنها القومي.
شبكة العلاقات بين دول القوقاز متشعّبة. فروسيا تربطها علاقات تاريخية قوية مع أذربيجان، الا أنها في الوقت ذاته تدعم أرمينيا وتقف الى جانبها بكلّ قوة. روسيا هي المزوّد الرئيس للسلاح الى أرمينيا، ولديها على أراضيها قاعدتان عسكريتان، إحداهما على مقربة من الحدود التركية. كما انّ أرمينيا ترتبط بروسيا بمعاهدة دفاع، تنصّ على دعم موسكو لأرمينيا وحمايتها في حال تعرّضها لحرب تشنّ عليها.
وعلى الرغم من العلاقات الروسية الأرمينية المتينة، فإنّ لروسيا أيضاً مصالح اقتصادية متنوّعة مع أذربيجان، لا سيما العسكرية منها، حيث تعتبر المورد الرئيس للأسلحة الروسية الى باكو، ما يخدم ويغذي الخزينة المالية الروسية. أما تركيا التي تحكمها علاقات سيئة مع معظم الدول المحيطة بها: اليونان. قبرص، سورية، العراق، أرمينيا، باستثناء روسيا حيث تتأرجح العلاقات أحياناً بين مدّ وجزر، تلتقي على مسائل وتختلف حيال غيرها. أما بالنسبة لإيران فإنّ العلاقات الثنائيّة التركية ـ الإيرانية جيدة، وتتنامى وتتطوّر أكثر فأكثر بين البلدين، في المجال الاقتصادي والتجاري والسياحي، وإنْ اختلفتا حول أوضاع وأمور تتعلق بدول المنطقة المشرقيّة، لا سيما سورية والعراق.
اما طهران، فلديها أيضاً علاقات متينة مع كلّ من أرمينيا وأذربيجان، اللتين تربطهما بإيران حدود مشتركة، حيث تعتبر إيران المتنفس الحيوي لأرمينيا، والمزوّد لها بالطاقة وغيرها. أما بالنسبة لأذربيجان، فإنّ تركيا تقف بكلّ قوة بجانب أذربيجان، وتوفر لها كامل الدعم. فالعلاقات الاقتصادية قوية ومتنامية بين البلدين، لا سيما أنّ أذربيجان دولة نفطية تعوّل أنقرة أهمية كبيرة عليها، على اعتبار انّ لتركيا رغبة وشهية كبيرة للسيطرة والتحكم بطرق إمدادات الطاقة التي تمرّ عبر أراضيها. بالإضافة الى ذلك، تطلع الرئيس التركي أردوغان وحزبه، الى دعم المجتمعات والأقليات التركية الموجودة في أنحاء العالم.
في ضوء هذا الواقع، يبقى القوقاز على فوهة بركان قابل للفوران في أيّ وقت، وعند تحريكه من طرف أو اكثر، طالما أنّ الحلّ النهائي للنزاع الأرميني ـ الأذري، لم يحظ بعد بموافقة الأطراف المعنية بالصراع، وهذا ما يجعل هذا النزاع شبيهاً بأزمة كشمير، التي هي دائماً أقرب إلى الحرب منها الى إيجاد الحلّ وتوفير فرص السلام.
القتال العنيف الذي اندلع منذ أيام قليلة، هو الأشدّ منذ عام 2016، ويأتي ضمن سلسلة من أحداث العنف التي يشهدها إقليم ناغورني قرة باخ منذ اثنين وثلاثين عاماً وحتى اليوم.
يكفي اذا ما اندلعت الحرب بين أرمينيا وأذربيجان على نطاق واسع، وتدخلت إحدى دول القوقاز في الصراع ووقفت إلى جانب دولة من الدولتين المتصارعتين سيزيد من لهيبها، إذ لا يمكن لدول المنطقة أن تقف مكتوفة الأيدي حيال ما يجري، خاصة أنها معنية مباشرة، بمصالحها وأمنها القومي، مما
سيشرع أبواب المنطقة كلها، أمام حرب شرسة، قد تتجاوز حدود القوقاز، وصولاً الى أوروبا. خاصة أنّ أوروبا، ودولاً عديدة في القوقاز والعديد من دول غربي آسيا وخارجها، تنظر بعين الريبة وعدم الارتياح، لدور تركيا وطموحها البعيد، حيث بدأت تتمادى وتندفع في سياساتها خلال العقد الثاني من القرن الحالي من دون ضوابط، وتتجاوز في ممارستها وإجراءاتها حدود «السلطنة» الجديدة، من خلال انغماسها وتورّطها، في أحداث خطيرة تجتاح دول المنطقة، ودعمها المكشوف للفصائل المسلحة الإرهابية في العراق، وسورية، وصولاً إلى ليبيا، ومدّ خطوط نفوذها الى قطر، مستفزة دول الجزيرة العربية، لا سيما المملكة العربية السعودية، وما تمثله من أهمية كبيرة ودور مؤثر في المنطقة، وكذلك قيامها بنسج علاقات تطرح علامات استفهام، وتثير الشكوك في أهدافها ودوافعها، مع مجموعات شعبية، تصبّ في خدمة مصالحها، وأهدافها البعيدة، أكان ذلك في لبنان أو السودان أو الصومال أو في دول آسيا الوسطى أو في غيرها.
تفجير الوضع الحالي في القوقاز مَن هو وراءه؟! ولماذا هذا التوقيت بالذات؟! ولمصلحة من يصبّ في هذا الظرف الحساس؟! ليس من مصلحة روسيا في الوقت الحاضر، ولا أرمينيا، ولا إيران، ولا جورجيا أن تشتعل الحرب. فهل لتركيا مصلحة بإشعالها، وهي تعلم أنّ نارها لن تقتصر على الطرفين المتحاربين، وإنما قد يمتدّ نارها الى ما وراء قرة باخ، وأرمينيا وأذربيجان، لتجرّ الى ميدان القتال دولاً هي بغنى عنها.
هل تعي تركيا حقيقة الأمر، أم أنّ لأردوغان حسابات داخلية تدفعه للذهاب بمغامرته بعيداً!
حتى لو امتلك أردوغان القوة واستخدمها، وفرض الأمر الواقع «التركي» فإنه بكلّ تأكيد لن يحصد السلام، بل ستظلّ ناغورني قرة باخ، فتيل حرب قابل للاشتعال في أيّ وقت، تغيب عنها فرص السلام العادل المفقود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.