لم ينم الكثيرون، وكما لم يهتموا بالكثير من الأخبار، يهتمون بهذه المتابعة، وأحياناً بشغف، ومثلهم كنت في مغالبة النعاس. أخذتني سِنة نوم: في مقتبل العمر كنت، وكانت عيناي شاخصتين، وفي حالة توتر وقلق، أكاد أفقد السيطرة على جسدي، لو لم يكن الوقت متأخراً، قُرابة الفجر، لوقفت صارخاً: اعطِه وانتبه، ملاسنة ممتازة فلكمة قوية. أفاقتني يد تهمز ذراعي، وصوت يقول لي: وأنت في غطيطك بدأت المناظرة. كنت في سبعينيات القرن الفائت، أتابع بشغف مباراة “الملاكم محمد علي كلاي”، حين هُمزت في ذراعي، في نشوة المتعة، ومثل الكلّ أغالب النعاس، حتى يحرز بطلي “كلاي” الفوز بالضربة القاضية.
مناظرة ومرشحان
في هذا الحال، قبضتُ على نفسي متلبسةً، بمتابعة المناظرة الأولى، في الانتخابات الرئاسية الأميركية، بين المرشحَين الشيخين، الرئيس ترمب، ونائب الرئيس السابق بايدن، فجر الأربعاء 30 سبتمبر (أيلول) 2021.
تَشخص عيون العالم وتَطول آذانه، كما يدق قلبه ويشوَّش عقله، متابعاً هذا الحدث الهوليودي، أو كرة القدم الأميركية. وقبل وحتى بعد، الكثير من العالم لا رهان له، فالكثير من الكثير، يصرّح أن لا فرق بين “الحاج مفتاح” وبين “مفتاح الحاج”! وأيضاً هذا الكثير لا تغمض له عين، كل أربع سنوات، حتى يشاهد الحلقة الأولى وبقية الحلقات، من المسلسل الرباعي الأميركي. وكأن العالم لا قدرة له، على الحياد أو اللامبالاة. وفي هذه الحالة، لا بد أن يضع يده على قلبه، وأن يشغل فكره ويضطرب قلبه.
التلاعب بالكبار
يحدث هذا على الرغم من أن الغالبية في داخل الولايات المتحدة وخارجها، تعرف أن الرئيس والطامع بالرئاسة، يُغلّبان بطون الأميركيين، عن كل المسائل عند التناظر، الذي كأن العالم يمشي نائماً ليتابعه، متأكداً من أن نتائج الحرب الكبرى الثانية، ما زالت تؤدي مفعولها، كما قنبلة هيروشيما. العالم مُقاد رغماً عنه ومن أنفه! من واشنطن ، التي يتنافس على ركوب “كرسي الرئاسة” فيها، شيخان هرمان، وُلِدا مع ميلاد الولايات المتحدة زعيمة للعالم، وقد بات كل منهما على حافة القبر، وكل منهما يلعب به صغاره، فترمب متهم بصهره، وبايدن بابنه.
المناظرة، كالولايات المتحدة، محكومة بمرضين، أحدهما قديم، وهو العنصرية، وهي مسألة أميركية مُزمِنة، ثم الآخر جديد، وهو فيروس كورونا. والجديد مسألة عالمية عن جدارة. وكلا المسألتين، طابعهما سياسي في الصميم، على الرغم من كل الدعاوى، وقد أكدت المناظرة ذلك، فظهر أن الرئيس الجمهوري يراهن، على البنية الأميركية التقليدية، العنصرية الطابع، فيما يراهن خصمه على رؤية الحزب الديمقراطي هذه البنية، عبر المسألة الصحية، كما عُرفت في مشروع “أوباماكير”، وقبله في طرح مسألة المساواة، عبر توفير الخدمات للطبقات الدنيا من جهة، ومواجهة العنصرية بهذه المساواة من جهة أخرى.
وينعكس ذلك الاختلاف الأميركي على السياسة الأميركية الخارجية بشكل غير مباشر، أي أن ما يُعتبر مسألةً داخلية في الدولة الكبرى الأولى حتى الآن في العالم، هو مسألة خارجية تنعكس من خلال توجهات الرئيس، الحاكم الأول داخل أميركا ومن ثم في العالم. فمثلاً، يواجه ترمب كورونا بظهره، متخذاً من المسألة الاقتصادية “الكمامة”، متراسه الواقي، فيما الحزب الديمقراطي يعيد الكرّ بمشروع “أوباماكير”*.
ملاسنة عاجزة
لكن المناظرة من ناحية بارزة، تفكك مسألة الرئاسة في أميركا، فأظهرتها كملاسنة شيخين في حي شعبي. كل شيخ يردح، فيغرف من زاده السباب الشخصي، وكل منهما يغرف من رأسماله الرمزي، في مديح شخصه. وهما يتقاذفان أقذع التهم حتى العائلية، يقف العالم كشاهد لم يرَ شيئاً. فالعالم لن تزوّده المناظرة بجديد، وحتى أنه لا يذهب بعيداً، فهو خلال السنوات الثلاث أو الثلاث ونصف السنة، التي مارس فيها ترمب الرئاسة، رأى من الرئيس الأميركي الحالي ما كان كاريكاتورياً، وعرضاً من راعي بقر فظ باقتدار، وليس له لا مثيل.
المناظرة فاتحة يتلوها الرئيس القادم، الذي بمقدوره أن يغير في أقدار العالم، سواء فاز الرئيس الحالي أو خصمه، الذي لن يأتي فوزه بجديد، غير الأسلوب الشخصي على الأقل، فيما لو فاز الرئيس فإنه قادر على صبغ الوضوء وأداء الفترة الثانية، من دون ثقل أي طمع في فترة أخرى. ولهذه الأسباب نجد أنفسنا مضطرين، لمتابعة مباراة “كلاي”، ففوزه أو فوز خصمه يعنينا، حيث، وإن لم يتغير الحصان، فإن تغيير السرج أيضاً له دلالته، في عالم دائماً يحكمه الأقوياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تم إطلاق “أوباماكير” في عام 2010، وافقت عليه المحكمة العليا في الولايات المتحدة في عام 2012، يعتبره الديمقراطيون أهم إنجاز للرئيس السابق باراك أوباما، وكان أول قراراته عقب توليه الرئاسة، ومعنى القانون: “الرعاية الصحية، وحماية جميع المرضى وبأسعار معقولة”. يهدف القانون إلى توفير التأمين الصحي لكل الأميركيين بكلفة منخفضة، حيث يشمل 95 في المئة من سكان أميركا، وبدأ تنفيذه في أكتوبر (تشرين الأول) 2013، بحيث لم يعد بإمكان شركات التأمين رفض التغطية الصحية للأطفال لأسباب مرضية سابقة.